web analytics
القسم الثاني – الباب الرابع

الفصل الثامن والعشرون الدستور

من “نصّ السلطة” إلى عقد الإنسان السيادي

مدخل إنساني–فلسفي:

لم يُكتب الدستور السوري يومًا من صوت الناس.
ولم يُصَغ على نبض الألم، ولا على شكل الحلم،
بل جاء دومًا نصًا مفروضًا،
يغلف السلطة بقداسة الكلمة،
ويُقنّن القمع،
ويحمي الفئة،
ويُسكت السؤال.

في كل تجربة دستورية مررنا بها،
كان هناك غائب واحد دائم: الإنسان.

غُيّب الإنسان كفرد له صوت،
كشريك في السيادة،
كذاتٍ حرة لا تُختصر في طائفة أو حزب أو قرار فوقي.

وهكذا، بقي الدستور في سوريا “نصًا فوق الحياة”،
يتحدث عن الشعب دون أن يمرّ به،
ويضع سلطات مطلقة… باسم من لا سلطة لهم،
ويصنع زعيمًا أبديًا… باسم وطنٍ لم يعد يُعرَف إلا من صورته.

أولًا: ما الذي يجب أن يكون عليه الدستور؟ وما الذي يجب أن لا يكونه؟

الدستور، في مشروع النهضة، ليس ورقة فوقية تُصاغ في غرف مغلقة،
ولا وثيقة مشروطة بتوازنات الخارج،
ولا أداة لتزويق بنية سلطوية موروثة.

الدستور هو:

  • عقد حرّ بين بشرٍ أحرار،
  • يُعرّف فيه الإنسان نفسه كمصدر للمعنى والسيادة،
  • ويصوغ علاقته بدولته لا كخاضع، بل كمؤسِّس،
  • ويحدد عبره شكل السلطة لا ليحميها… بل ليقيدها.

هو وعدٌ لا يُنتهك،
وسقفٌ لا يُسقط فوق رؤوس من بناه،
هو ضمانة ألا يعود أحدٌ فوق الجميع،
ولا يُقصى أحد باسم الجميع،
ولا تُحتكر الحقيقة في سلالة أو مذهب أو خطاب.

ثانيًا: فلسفة العقد المؤسِّس – حين يصبح الدستور مرآةً لا قيدًا

في تاريخ الشعوب، اللحظة الدستورية هي لحظة وعي جماعي نادر،
لحظة يقول فيها الناس:

“نحن هنا، نريد أن نعيش بكرامة،
لا على هامش سلطة،
ولا ضمن خريطة مرسومة في الخارج،
ولا كأتباع يصفقون للزعيم حين يُهزم… أو يَسقط”.

ولذلك، فإن الدستور ليس مجرد هيكل سلطوي،
بل هو تعبير عن من نحن؟ وما الذي نؤمن به؟ وكيف نعيش معًا؟

هو وعدٌ بأن السلطة لن تعود مِلكًا لأحد،
ولا وراثةً لأحد،
ولا خطرًا على أحد.

ثالثًا: ما الذي لا نريده في دستورنا القادم؟

نحن لا نريد دستورًا:

  • يشرعن الهيمنة باسم الوحدة.
  • ويصمت عن القمع باسم الأمن.
  • ويخنق التعدد باسم “الهوية الجامعة”.
  • ويصنع زعيمًا لا يُحاسب، ولا يُحد، ولا يُنسى.
  • ويترك للجيش والأمن أن يكونا فوق القانون.

لا نريد دستورًا يُكرّر البنية المريضة ذاتها،
بأسماء جديدة،
وأحزاب جديدة،
لكن بنفس المنطق القديم:
الطاعة، والإقصاء، والتسيد، والاحتكار.

رابعًا: المبادئ المؤسسة للدستور النهضوي

في مشروع النهضة، نؤمن أن الدستور يجب أن يُبنى على:

  1. الإنسان كمصدرٍ للحق والمعنى: لا دين الدولة، ولا قوميتها، ولا مرجعيتها الحزبية يجب أن تعلو على كرامة الإنسان وحريته.
  2. السيادة الجمعية لا الشخصية: لا رئيس فوق الشعب، ولا قرار فوق التمثيل، ولا شرعية تُمنَح ثم تُؤخَذ.
  3. المشاركة بوصفها جوهر العقد: لا قيمة لدستور لا يُصاغ عبر إرادة شعبية حرّة، ولا يُصوَّت عليه ضمن بيئة نزيهة، ولا يُبنى من تنوّع المجتمع لا من أحاديته.
  4. الفصل الحقيقي للسلطات: لا تداخل بين التشريع والتنفيذ والقضاء. لا وصاية دينية على القانون، ولا تبعية سياسية للقضاء، ولا أمنٌ يكتب الدستور بظل السلاح.
  5. تعدديّة الهوية السورية: اعتراف دستوري صريح بأن سوريا ليست هوية واحدة، بل نسيجٌ متنوّعٌ يجتمع على المساواة والكرامة لا على التطابق والانصهار القسري.
  6. العدل كمبدأ أعلى: لا حماية لمواطنٍ دون آخر، ولا تراتبية في الكرامة، ولا تمييز مبني على الدين أو العِرق أو الانتماء الجغرافي.

خامسًا: الدستور كأداة أمل… لا كأداة قمع

نريد دستورًا يرى الطفل،
ويرى المرأة،
ويرى اللاجئ،
ويرى المهمّش،
ويرى من ليس له حزب، ولا ظهر، ولا مال.

نريد دستورًا يعترف بحق الناس أن يُخطئوا، ويُعارضوا، ويُحاسِبوا.

نريد دستورًا يقول لكل سوري:

“أنت هنا لأنك صاحب هذا المكان،
لا لأنك تشبه الأكثرية،
ولا لأنك خضعت للقوي،
ولا لأنك تملأ بطاقة انتخاب،
بل لأنك إنسانٌ يستحق أن يكون شريكًا في الوطن.”

سادسًا: من التجربة إلى الانبعاث – كيف نبني لحظة دستورية حقيقية؟

لا يكفي أن نقول “نريد دستورًا جديدًا”.

بل يجب أن نُخضع هذه اللحظة لعملية تأسيس حقيقية، تشمل:

  • حوار وطني شامل بين كل فئات الشعب، لا يُقصي أحدًا.
  • لجنة منتخبة لصياغة الدستور تمثل كل الشرائح لا المحاصصات.
  • بيئة ديمقراطية حرة تضمن حرية النقاش، وتمنع التخويف والترهيب.
  • استفتاء شعبي حرّ، لا يُدار بالأجهزة، بل بالوعي.
  • آلية مراجعة مستمرة تمنع جمود النصوص وتحول دون عودة التسلط باسم الثوابت.

خاتمة الفصل وخاتمة الباب الرابع:

لم يكن الدستور في سوريا يومًا لنا.
كان أداة سلطة،
ولغةً لتبرير الهيمنة،
وصكّ طاعة لا صكّ شراكة.

لكننا اليوم، في هذا المشروع،
نحاول أن نستعيد المعنى،
أن نمنح الكلمات روحًا،
والحقوق جذورًا،
والمستقبلَ بابًا يُفتح لا يُغلق.

فالدستور الذي نريده ليس دفتر قوانين،
بل تجسيدٌ لرؤية الإنسان السوري لذاته ومجتمعه ودولته.

دستورٌ لا يكتبه الزعيم،
ولا يُخيط على مقاس حزب،
بل يُصاغ من وجع الناس،
ومن وعيهم،
ومن شوقهم الطويل إلى دولةٍ تحميهم… لا تسحقهم.

إنه دستور الإنسان السوري،
لا كأداة حكم، بل كإعلان وجود…
وميثاق كرامة…
ومفتاح النهضة التي لا تبدأ إلا حين نقرّر أن نصوغ مصيرنا… بأيدينا.