web analytics
القسم الثاني – الباب الثالث

الفصل الرابع والعشرون الأسرة

من الخضوع التربوي إلى العلاقة الحرة المسؤولة

مدخل فلسفي–اجتماعي: من البنية المغلقة إلى النواة الحية للسيادة

ليست الأسرة في مشروع النهضة كيانًا اجتماعيًا تقليديًا يُكتفى بتقديسه أو وصفه بوصفه “الخليّة الأولى في المجتمع”، بل هي المنصة التكوينية الأولى التي تُبنى فيها علاقة الإنسان بذاته، وبالآخر، وبالسلطة، وبالمعنى.

الأسرة هي التجربة الأولى للانتماء، والحب، والرعاية… لكنها في الوقت نفسه قد تكون التجربة الأولى للقمع، والطاعة، والامتثال القسري، إن لم يُعاد تعريفها خارج الموروثات السلطوية التي اختزلتها في أدوار جامدة: أبٌ آمر، أمٌّ مضحية، أبناءٌ خاضعون.

في الأنظمة التسلطية، تُستنسَخ بنية الدولة في قلب الأسرة: سلطة عمودية، طاعة غير مشروطة، غياب الحوار، وتقديس الصمت.
فيتحوّل البيت إلى صورة مصغّرة عن الدولة القامعة، ويتحوّل الأب إلى نموذج للزعيم، ويتحوّل الطفل إلى مشروع تابع لا إلى كيان سيادي صغير.

ولهذا، فإن أي مشروع نهضة لا يعيد تعريف الأسرة بوصفها علاقة حرة–مسؤولة، يتخلّى عن مصدره التكويني الأعمق.
فالحرية لا تُكتسَب في البرلمان، بل تُتَعلَّم على مائدة العائلة.

والسيادة لا تبدأ من الدستور، بل من تلك اللحظة التي يُمنَح فيها الطفل حق السؤال دون خوف، والأم حق القرار دون وصاية، والأب حق الخطأ دون أن يُختزل في صورة السلطة المطلقة.

أولًا: الأسرة في التجربة السورية – من العلاقة إلى البنية السلطوية
تعرّضت الأسرة السورية، خلال العقود الماضية، إلى نوعين من التهميش البنيوي:

تهميش سياسي–أمني:

لم تكن الأسرة محمية من تغوّل الدولة. بل خُرقت من الداخل عبر جهاز المخابرات، والتعليم الموجه، والرقابة المجتمعية، بحيث أصبح الانتماء الحزبي أو الولاء للنظام يعلو على الروابط الأسرية ذاتها.

لقد أُجبر الأب على تعليم أطفاله الصمت، وأُجبرت الأم على تعليمهم الكذب النجوي لحمايتهم من الدولة.

تهميش معرفي–حقوقي:
لم يُبنَ مفهوم الأسرة على قاعدة المساواة، بل على التسلسلات السلطوية:
▪ الأب كسلطة مطلقة
▪ الأم ككائن ملحق
▪ الابن الذكر كوارث للهيمنة
▪ البنت كوصمة محتملة يجب “حمايتها” من نفسها

في ظل هذه البنية، لم تكن الأسرة فضاءً للحب والاحترام، بل للتأديب والرقابة وتكرار الصمت.
ولهذا لم تكن أداة للتحرر، بل منشأةً لإنتاج الخضوع المسبق.

ثانيًا: فلسفة الأسرة في مشروع النهضة – من الطاعة إلى العلاقة التكوينية

نحن لا نسعى إلى “تفكيك” الأسرة، كما يتّهم الخطاب المحافظ كل مشروع تحرّري، بل نسعى إلى تحرير العلاقة داخلها من التسلط، ومن التقديس الوظيفي، ومن القوالب الاجتماعية الجامدة.

فالأسرة، في تصورنا، ليست مؤسسة للضبط، بل فضاء تربوي للانعتاق المسؤول.

نقطة الانطلاق الأساسية:
الأسرة هي مكان الوعي الأول،
فإن تأسست على الخوف، نشأ مجتمع خائف.
وإن تأسست على الاحترام، نشأ مجتمع حرّ.
وإن تأسست على الصمت، نشأ شعبٌ غير قادر على التعبير.
أما إن تأسست على الرعاية الحرة والمسؤولية المشتركة، نشأت الدولة من داخل إنسانها.

فلسفيًا، نحن نعيد تعريف الأسرة بوصفها:

علاقة لا سلطة

رابطة لا وصاية

ميدانًا للكرامة المتبادلة، لا للتقديس المجتزأ

فضاءً مفتوحًا للتفاوض على الدور، لا مسرحًا لتكرار القوالب الجندرية والاجتماعية الجامدة

ثالثًا: ملامح العلاقة الحرة–المسؤولة داخل الأسرة
لكي لا تبقى الأسرة تكرارًا غير واعٍ لبنية الدولة السلطوية، لا بد من إعادة تعريف أدوارها:

الأب: ليس الزعيم، بل الراعي الواعي
▪ يُعيد تشكيل صورته بعيدًا عن مفاهيم “القدوة القاسية”،
▪ ويتحرّر من عبء السيطرة ليصبح مسؤولًا لا وصيًا.
▪ يربّي لا ليُطاع، بل ليُحب ويُحاور.

الأم: ليست الحاضنة الصامتة، بل شريكة في الفعل والقرار
▪ تستعيد دورها كفاعلٍ حر، لا كرمز للتضحية المستهلكة.
▪ ليست ظلًا للرجل، بل ضوءًا موازٍ له في بناء الإنسان.

الأبناء: ليسوا مشاريع “نجاح”، بل ذواتٌ قيد التكوين
▪ يُربّون لا على “التفوّق” فقط، بل على الفرح، والخيال، والتجريب، والخطأ، والاستقلال.

▪ ويُنظر إليهم لا بوصفهم واجهاتٍ اجتماعية، بل بوصفهم كائناتٍ حرّة تستحق الحب غير المشروط، والرعاية التي لا تبتز.

رابعًا: الأسرة والسياسة – من بنية خاصة إلى فضاء عام مصغّر
كل حديث عن “الدستور” أو “المواطنة” أو “العدالة” ينهار إن لم يجد ترجمته الأولى داخل الأسرة.

في مشروع النهضة، لا نفصل بين السياسة الكبرى والسياسة الصغرى.
فالأسرة هي أول تجربة “سلطة”، وأول تجربة “مواطنة”، وأول مكان يُفهم فيه معنى “الحدود”، و”الحق”، و”الواجب”، و”الاحترام”.

ولهذا، فإن إصلاح الأسرة ليس شأنًا خاصًا، بل شرطٌ تأسيسي لإصلاح الدولة.

نحن لا نُعيد تعريف الأسرة من أجل الفرد فقط، بل من أجل المجتمع، ومن أجل التعاقد السياسي ذاته.

خامسًا: مكونات السياسات الأسرية في الدولة النهضوية
لكي لا تبقى الأسرة فضاءً مأزومًا يُعيد إنتاج العنف والتسلط، لا بد من بنية داعمة، تشمل:

سياسات دعم الأبوة والأمومة الواعية:
▪ برامج تثقيف للأهل حول التربية الحديثة.
▪ دعم نفسي للأهل في أدوارهم، خصوصًا بعد الحرب.
▪ تفكيك الخطاب التربوي القائم على القمع والتطويع.

تشريعات تحمي العلاقات لا تكرّس السيطرة:
▪ قوانين تحمي المرأة والأطفال من العنف الأسري.
▪ ضمان حق الطفل في التعبير والمشاركة داخل أسرته.
▪ رفع الوصاية المطلقة التي يمنحها القانون التقليدي للأب.

إعلام ثقافي يعيد تشكيل صورة الأسرة:
▪ التخلص من القوالب النمطية للأبوة والأنوثة والأمومة.
▪ إنتاج محتوى يعكس نموذج الأسرة التشاركية، لا السلطوية.

دعم اقتصادي يحمي الأسرة من الانهيار:
▪ تمويل مراكز دعم للأسر في المناطق الفقيرة والمنكوبة.
▪ توفير رعاية صحية، وتعليمية، ونفسية متكاملة للأسرة.

خاتمة الفصل: الأسرة كأرضية للسيادة لا كمسرح للتكرار
في مشروع النهضة، لا نريد “نموذج الأسرة المثالية”،
بل نريد نموذج “الأسرة الصادقة”،
التي تُربّي أفرادها لا على القوالب، بل على المعنى.
الأسرة التي تحتضن، لا تقمع،
تُحرّر، لا تُخرّس،
تُربّي، لا تُجنّد.

لأننا نؤمن أن النهضة لا تُبنى فقط في الدستور… بل تبدأ من غرفة المعيشة،
حين يُصغي أبٌ إلى طفله، دون خوف.
حين تحسم أمٌّ قرارًا يخصّها، دون إذن.
حين يفشل ابنٌ دون أن يُهان.
حين تُحترم العائلة بوصفها بداية الحرية… لا خزانًا للطاعة.

الأسرة، حين تُؤسَّس على الرعاية الحرة،
تُنتج مجتمعًا لا يحتاج إلى “الزعيم–الأب”،
بل إلى دولة تحترم أبناءها… كما تحترم أمًّا تنظر في عيني طفلها… وتقول له:
“أنت حرّ، وأنا معك، لا فوقك”.

هل ننتقل الآن إلى الفصل الثالث والثلاثين: “المجتمع المحلي – من التذرّر إلى النسيج التشاركي السيادي”؟