القسم الثاني – الباب الخامس
الفصل التاسع والعشرون الإعلام
من أبواق السلطة إلى فضاء الوعي الحر
مدخل فلسفي–معرفي:
الإعلام، في جوهره، ليس مهنة فقط،
ولا وظيفة نقل،
ولا حيادًا فارغًا كما يدّعي بعضهم،
بل هو صناعة للمعنى،
وإنتاج للرؤية الجماعية للعالم،
وأداة مركزية في تأسيس الوعي، أو تشويهه.
ولذلك، لا يمكن لمشروع نهضة أن يُبنى دون تحرير الإعلام،
لا بوصفه قطاعًا مهنيًا فحسب،
بل باعتباره أحد أهم مفاصل السيادة الفكرية والمعرفية،
ومنصة المواطن لا منصة السلطة.
أولًا: تشريح التجربة السورية – الإعلام كجهاز أيديولوجي
منذ خمسين عامًا، لم يكن الإعلام السوري أداة وعي،
بل أداة ترويض وتبرير وتكرار.
- تم تأميم المؤسسات الإعلامية مبكرًا
- ووُضعت تحت سلطة الأجهزة الأمنية
- وتم تحويل الصحفي إلى موظف،
- والمحرر إلى مروّج،
- والقارئ إلى متلقٍ صامت
النتيجة: إعلام يُصفّق… لا يُسائل
إعلام يتحدّث باسم السلطة… لا عن الناس
إعلام يرى في الحاكم رمزًا… وفي النقد خيانة
لقد تم تحويل الإعلام إلى “مسرح خضوع” يعيد إنتاج النظام الرمزي للسلطة،
ويجعل من الكذب الوطني فضيلة،
ومن التكرار الأيديولوجي منبعًا للشرعية الزائفة.
ثانيًا: تفكيك آليات الهيمنة الإعلامية
كيف تم ذلك؟ عبر أدوات مركّبة، منها:
- الاحتكار الكامل للمعلومة
- حظر أي صوت خارج الخطاب الرسمي
- دمج الإعلام بالتعليم والدين لإنتاج خضوع شامل
- إنتاج صورة نمطية للمواطن الصالح (الساكت، المطيع، المصفق)
- شيطنة الإعلام المستقل واعتباره خيانة وطنية
- تمجيد الحاكم في كل سياق ممكن: الطقس، الثقافة، الرياضة، الحروب، وحتى الأزمات
وبذلك، لم يعد الإعلام صوتًا، بل صدى.
ولم يعد مرآةً للمجتمع، بل شاشةً تعكس صورة الحاكم فقط.
ثالثًا: الإعلام والثورة – لحظة تفجّر الصوت
مع اندلاع الثورة السورية،
انكسر الحصار الإعلامي… ولو جزئيًا.
- خرج الناس بهواتفهم قبل كاميراتهم
- كتبوا وصرخوا وصوّروا ونشروا
- ولأول مرة، ظهر صوت الشعب لا صدى السلطة
لكن تلك اللحظة سرعان ما تم احتواؤها:
- عبر تمويل خارجي مشروط
- أو عبر إعلام معارض تكرّر في بنيته البروباغاندية
- أو عبر فوضى الإعلام المنصّاتي، حيث تضيع الحقيقة في ضجيج الرأي
وهكذا، لم يتحرر الإعلام السوري بالكامل،
بل انتقل من سلطة إلى أخرى،
ومن رقابة مباشرة… إلى رقابة التمويل والتبعية
رابعًا: من الإعلام كأداة سلطة إلى الإعلام كرافعة وعي
في مشروع النهضة، نعيد تعريف الإعلام كما يلي:
الإعلام هو “فضاء الوعي العام”،
حيث يُنتج المواطنون سرديتهم،
ويُحاورون السلطة،
ويُشكّلون المعنى الجماعي،
ويُمارسون السيادة الرمزية على فضاءهم العام
وبهذا:
- لا يكون الإعلام سلطة رابعة فقط،
- بل السلطة المؤسسة لكل سلطة،
لأنه يحدد ما يُقال، ما يُصدّق، ما يُهمّش، وما يُنسى.
خامسًا: الإعلام والسيادة – من احتكار الخطاب إلى التعدد الحر
لا سيادة دون إعلام حر.
ولا ديمقراطية دون قدرة الناس على الوصول إلى الحقيقة.
ولا عقد اجتماعي دون سردية جامعة تُبنى من الحوار لا من الإملاء.
ولذلك، الإعلام في مشروعنا هو:
- أداة تمثيل رمزي للناس، لا واجهة للسلطة
- ساحة للنقد والمحاسبة، لا للاحتواء والتوجيه
- وسيلة بناء وعي مشترك، لا منصة لشيطنة الآخر
- فضاء للمعلومة الموثوقة، لا ساحة للشائعات والخرافة
سادسًا: خارطة التحوّل – كيف نبني إعلامًا للنهضة؟
- تحرير الإعلام من سلطة الدولة المركزية
- ضمان دستوري لحرية التعبير والنشر
- منع احتكار الترددات الإعلامية والتمويل
- تشجيع الصحافة الاستقصائية والمسؤولية المجتمعية
- فصل الإعلام العام عن الأحزاب والطوائف والمصالح
- إطلاق منصات تمثّل المناطق والهويات المحلية دون وصاية
- بناء مجلس أعلى للإعلام مستقل، يراقب ولا يُراقب
سابعًا: الإعلام والنهضة المعرفية – من التلقين إلى التمكين
لا يكفي أن نحرّر الإعلام من السلطة،
بل يجب أن نحرّره من الخواء أيضًا.
- إعلام النهضة لا يُعلّم الطاعة… بل يُعلّم التفكير
- لا يُغرق الناس بالعاطفة… بل يُحرّرهم بالمعرفة
- لا يُقدّم التحليل الجاهز… بل يخلق النقاش
الإعلام ليس فقط ناقلًا،
بل صانعًا للثقافة السياسية،
وفاعلًا في تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع،
ومسؤولًا عن إعادة الاعتبار للعقل العام.
خاتمة الفصل: الإعلام كفضاء سيادي ورافعة نهضوية
في مشروع النهضة السورية،
نُعيد الإعلام إلى مكانه الطبيعي:
لا كأداة أمنية،
ولا كبوق حزبي،
ولا كمنبر للزعيم،
بل كفضاء للناس،
لسؤالهم، لحقيقتهم، لتنوّعهم، ولصوتهم غير المقطوع.
الإعلام الحقيقي ليس من يُدافع عن الدولة،
بل من يُدافع عن المجتمع،
ويُحاور الدولة،
ويُنتج المعنى لا يستهلكه.
حين يتحرر الإعلام،
يتحرر الخيال.
وحين يتحرر الخيال،
يبدأ الإنسان في رؤية البديل…
وصناعة مستقبله لا تقليده.