القسم الخامس
الفصل العشرون معمار القيم السياسية للدولة الجديدة
من التجريد إلى التأسيس المؤسسي
مقدمة الفصل
إن مشروع النهضة السورية، بما يتطلع إليه من إعادة بناء المجتمع والدولة على أسس حديثة، لا يمكن أن يكتفي بمجرد إصلاح الهياكل السياسية أو إعادة صياغة الدساتير.
بل يجب أن يتأسس قبل كل شيء على منظومة قيمية واضحة ومتماسكة، تكون هي روح النظام السياسي الجديد، ومصدر شرعيته، وضمانة استدامته.
فالدولة الحديثة ليست مجرد جهاز إداري أو إطار قانوني،
بل هي في جوهرها تجسيدٌ لمجموعة من القيم الكبرى التي تنظم علاقة الإنسان بنفسه، وبمجتمعه، وبسلطاته العامة.
لذلك، فإن معمار القيم السياسية للدولة السورية الجديدة سيكون بمثابة الدستور الخفي الذي يُوجّه كل بناء مؤسساتي، وكل سياسة عامة، وكل ممارسة سلطوية أو مجتمعية.
أولًا: لماذا نحتاج إلى معمار قيمي سياسي صريح؟
لأن الفراغ القيمي يسمح بانزلاق الدولة إلى أداة قمع أو غلبة طائفية أو مافيوية.
لأن التجربة السورية أظهرت أن السلطة التي لا تحدها قيم عليا تنقلب حتمًا على المجتمع وعلى ذاتها.
لأن القوانين وحدها لا تكفي إذا لم تكن محكومة بمنظومة معيارية أخلاقية واضحة تحصّنها من الانحراف.
لأن إعادة بناء الثقة المجتمعية بعد الحرب والانهيار يتطلب أكثر من مؤسسات، بل يحتاج إلى عقد قيمي ناظم يحترمه الجميع طوعًا لا قسرًا.
لهذا، يجب أن نرسم بدقة معمار القيم السياسية التي ستنهض عليها الدولة السورية الجديدة.
ثانيًا: الركائز القيمية الأساسية للدولة السورية القادمة
نقترح تحديد الركائز القيمية الكبرى التي تشكل البنية الأخلاقية والسياسية العميقة للدولة، على النحو التالي:
- حرمة الحياة الإنسانية
الحياة ليست مجرد ملكية فردية، بل قيمة مقدسة لا يجوز المساس بها إلا وفق معايير قانونية مشددة (مثل حالة الدفاع المشروع عن النفس عبر القضاء لا عبر الثأر).
الدولة الجديدة تلتزم بحماية حياة جميع مواطنيها دون تمييز، وترى في كل اعتداء على حياة إنسان اعتداءً على العقد الاجتماعي نفسه.
- قدسية الكرامة الإنسانية
الإنسان لا يُختزل إلى طائفته أو عرقه أو دينه أو موقفه السياسي.
كل أشكال الإذلال، التعذيب، الإقصاء، والتمييز تنتهك الكرامة الإنسانية وتُعتبر خيانة للعقد الوطني الجديد.
يجب أن تكون الكرامة مصونة بالقانون والممارسة، وليست مجرد شعار دعائي.
- سيادة القانون فوق الولاءات الأولية
لا طائفة، ولا قبيلة، ولا حزب، ولا منطقة تعلو فوق القانون.
كل مواطن يُحاكم بصفته فردًا حرًا مستقلًا، لا كعضو في جماعة مغلقة.
سلطة القانون يجب أن تكون محايدة، موضوعية، شفافة، وقابلة للمساءلة.
- الحرية المسؤولة
الحرية ليست فوضى ولا انفلاتًا، بل ممارسة عقلانية مسؤولة تراعي حقوق الآخرين والمصلحة العامة.
الدولة تحمي حرية الفكر، التعبير، الاعتقاد، التنظيم، وتضمن أن تكون ممارستها متزنة ضمن إطار القانون والعدالة.
- المساواة المطلقة أمام القانون
لا امتيازات دينية، طائفية، عرقية، جندرية، مناطقية.
جميع السوريين متساوون في الحقوق والواجبات، دون أي تمييز أو تفضيل.
المساواة لا تُختزل في النصوص القانونية، بل يجب أن تصبح واقعًا فعليًا في الإدارة والتعليم والقضاء والإعلام.
ثالثًا: العلاقة بين القيم والدستور والمؤسسات
لكي لا تبقى القيم شعارًا تجميليًا، يجب أن تتحول إلى:
مبادئ دستورية صريحة، تُذكر في الديباجة وتُترجم في النصوص.
سياسات عامة ملزمة، توجه التشريعات والقرارات التنفيذية والقضائية.
معايير تقييم للأداء الحكومي والمؤسساتي، بحيث يُحاسب أي انحراف عنها باعتباره خيانة للعقد الاجتماعي.
بمعنى آخر:
القيم ليست تزيينًا للدستور بل قاعدته الحقيقية.
رابعًا: مخاطر غياب أو غموض المعمار القيمي
من دون وضوح القيم الحاكمة للدولة:
تتحول السياسة إلى صراع مصالح فئوية لا يضبطه ضمير جمعي.
تنشأ فجوة بين القانون والعدالة، حيث تُسخّر القوانين لخدمة القمع بدل حماية الحقوق.
يفرغ الانتماء الوطني من معناه، ويعود الناس إلى ولاءاتهم الأولية بحثًا عن الأمان.
تفقد مؤسسات الدولة شرعيتها الأخلاقية، ولو استمرت شكليًا.
لذلك، الوضوح القيمي شرط وجود، لا ترف تنظيري.
خامسًا: معركة تثبيت القيم في مرحلة البناء
يجب أن تبدأ معركة القيم منذ اليوم الأول، عبر صياغة الدستور، وبناء المؤسسات، وتدريب الكوادر، وإطلاق حملة توعية وطنية.
يجب أن يُكرس الإعلام الرسمي والخاص لنشر هذه القيم وتثبيتها في الوعي العام.
يجب أن يتضمن التعليم في كل مراحله مقررات واضحة عن القيم الدستورية للدولة والمجتمع.
يجب أن تُخضع مؤسسات الدولة الجديدة لرقابة مدنية مستقلة لضمان عدم انحرافها عن هذه القيم.
خاتمة الفصل
إن بناء معمار قيمي سياسي واضح ومتسق هو الخطوة الجوهرية التي تسبق بل تؤسس لكل هندسة مؤسسية ناجحة.
بدون هذا المعمار القيمي، ستكون الدولة الجديدة عرضة للتشوه والانهيار، مهما حسُنت نصوصها ومؤسساتها.
أما إذا تم تثبيت هذا المعمار في الدستور وفي الحياة العامة، فإن سوريا الجديدة ستملك أخيرًا بوصلة داخلية حقيقية، تقودها نحو الحرية، والعدالة، والكرامة، والمواطنة الحقّة.
وهكذا، نختتم هذا الفصل بوضع القاعدة الأخلاقية الكبرى للدولة السورية القادمة:
لا وطن بلا كرامة، ولا دولة بلا عدالة، ولا نهضة بلا مواطنة حرّة مسؤولة.