القسم السابع – الباب الرابع
الفصل الثالث والعشرون ذوو الاحتياجات والفئات المهمّشة
من العزل إلى الدمج الفاعل
مقدمة: الفئات المهمّشة كاختبار جوهري لعدالة الدولة
في كل دولة تنهض من ركام الحرب أو الاستبداد، لا يكفي أن تستعيد سلطتها ومؤسساتها، بل يجب أن تُعيد تقييم ما تم تجاهله عمدًا لعقود، وما أُقصي عن المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إمّا بالصمت، أو بالتمييز، أو بالتشييء العاطفي.
وفي الحالة السورية، تقف الفئات المهمّشة وذوو الاحتياجات الخاصة في قلب هذا التحدي، لا بوصفهم قضية إنسانية فحسب، بل بوصفهم مقياسًا لجوهر مشروع النهضة نفسه:
هل نعيد بناء الدولة بوصفها إطارًا جامعًا، أم نعيد إنتاج هيمنة نخبوية بوجه جديد؟
هل نحكم باسم المصلحة العليا، أم نبدأ بمنح الحقوق لمن حُرم منها طويلًا؟
وهل نرى الإنسان في ضعفه وقوته، أم نمنح شرعية الوجود فقط لمن يشبه “المعيار السائد”؟
في سوريا، لم يكن التهميش مجرد نتيجة عرضية للظروف، بل نتاجًا بنيويًا لسلطة أقصت، وهمّشت، وقسّمت الإنسان وفق مدى نفعه السياسي أو الاقتصادي أو الإداري.
وذوو الاحتياجات الخاصة، والناجون من الحرب، وضحايا العنف، والنساء المهمّشات، والأطفال اليتامى، والمسنّون الفقراء، والعاطلون بلا حماية…
كل هؤلاء لا يُمثّلون فقط “قضية فئات هشّة”، بل يمثلون جزءًا حيًا ومهمّشًا من الشعب السوري، يجب أن يُستعاد كمكوّن سيادي لا كمشكلة اجتماعية.
أولاً: تشخيص التهميش في الواقع السوري – بنية قمع لا غياب عابر
- غياب الرؤية القانونية والسياسية:
لم يُقرّ أي دستور أو قانون في سوريا الحديثة بحقوق ذوي الاحتياجات بوصفهم مواطنين كاملي الحقوق، بل غالبًا ما جرى التعامل معهم من منطق الشفقة أو الرعاية، لا من منطق السيادة الإنسانية.
- عزل مؤسسي طويل الأمد:
معظم المؤسسات التعليمية، الصحية، والنقلية غير مهيّأة من حيث البنية التحتية أو الكادر، بل غالبًا ما يتم إقصاء ذوي الإعاقات الجسدية أو النفسية تلقائيًا من المسار التعليمي أو المهني.
- ثقافة الإقصاء المجتمعي:
سادت ثقافة ترى في المختلف “عبئًا”، وتربط قيمته بقدرته على العمل أو الإنتاج، مع انتشار نظرات الإحسان أو العار تجاه من يعاني من إعاقة، أو اضطراب، أو حتى فقر مفرط.
- مضاعفة التهميش في الحرب:
الحرب أنتجت ملايين المتضررين جسديًا ونفسيًا؛ من مبتوري الأطراف، ومعوّقي القصف، وضحايا الاعتقال، والأيتام، والمغتصبات، والمصابين باضطرابات ما بعد الصدمة.
لكن البنية الوطنية لم تعترف بهم كمواطنين لهم مكان في خطة البناء، بل تُركوا على هامش الحكاية والقرار والذاكرة.
ثانيًا: الأسس الفلسفية لمشروع النهضة تجاه المهمّشين
- العدالة ليست مساواة شكلية، بل تكافؤ منصف للفرص:
العدالة تعني أن نُعطي أكثر لمن حُرم أكثر، وأن نميّز إيجابيًا لصالح من خسر توازناته بالقهر لا بالاختيار. - التمكين ليس إحسانًا، بل استعادة للحق:
المطلوب ليس “الرعاية”، بل تفكيك البنى التي منعت المشاركة، وبناء آليات لاندماج حقيقي يقوم على الاعتراف بالكرامة، والقدرة، والمكانة.
3. الهوية الوطنية لا تكتمل إلا بجميع أطرافها:
كل مشروع يضع الفئات المهمّشة في الهامش هو مشروع ناقص أخلاقيًا، هش اجتماعيًا، غير شرعي سياسيًا.
ثالثًا: الاستراتيجيات العملية للدمج العادل وتمكين الفئات المهمّشة
1. على المستوى الدستوري والقانوني:
- نص دستوري صريح يُقرّ بالمساواة، والحق في الدمج، والتكافؤ، ورفض أي تمييز.
- إصدار قانون وطني للتمكين المجتمعي يُحوّل الالتزامات إلى إجراءات إلزامية في كافة القطاعات.
- اعتماد نظام تمثيل خاص في المجالس الوطنية يُتيح للفئات المهمّشة المشاركة في الرقابة والتشريع والتقييم.2. على المستوى الإداري والمؤسساتي:
- تأسيس هيئة وطنية مستقلة لحقوق الفئات المهمّشة، تملك صلاحيات رقابية وموازنات مستقلة.
- إلزام كل الوزارات والمؤسسات الحكومية بمراعاة مبادئ الدمج والوصول الشامل.
- إعادة تأهيل البنية التحتية: مباني، مدارس، وسائل نقل، مؤسسات عامة، لتكون مهيّأة فعليًا للجميع.3. على المستوى التعليمي والثقافي:
- إصلاح جذري للمناهج لتضمّن قيم التعدد والعدالة وحقوق الإنسان غير النمطي.
- تدريب الكوادر التعليمية والطبية والاجتماعية على التعامل مع الاختلاف كقيمة لا كخلل.
- حملات إعلامية وطنية لتفكيك الصور النمطية، وتثبيت لغة كرامية لا استعطافية.4. على المستوى الاقتصادي:
- برامج دعم وتمويل صغيرة مخصّصة لأسر ذوي الإعاقة والفئات الهشة.
- إدماج منظّم لذوي الاحتياجات في سوق العمل ضمن نسب ملزِمة قانونًا.
- دعم التعاونيات والمشاريع المجتمعية التي تستوعب المهمّشين ضمن إنتاج تكافلي.5. على المستوى الصحي والنفسي:
- خطة وطنية للرعاية النفسية والاجتماعية للناجين والمحرومين.
- تطوير تأمين صحي عام للفئات الأقل قدرة.
- ضمان خدمات تأهيل نفسي وحركي واجتماعي مجانية لجميع المتضررين من الحرب والاعتقال والعنف.
خاتمة: لا نهضة بدونهم
مشروع النهضة السوري لا يكتمل بنجاح النخب، ولا يُقاس بعدد المؤسسات أو الوثائق، بل يُقاس بمدى قدرته على إرجاع الكرامة لمن سُحقت كرامتهم، وبناء مكان حقيقي لمن ظلوا خارج الخريطة لعقود.
ذوو الاحتياجات والفئات المهمشة ليسوا عبئًا ننتظر تجاوزه، بل هم قلب الاختبار الأخلاقي والسياسي والإنساني للدولة القادمة.
إما أن نؤسس دولة تتسع للجميع، أو نعيد إنتاج دولة الأقلية المتسلطة – ولو بوجه مدني جديد.
في سوريا الجديدة، يجب أن تصبح كل مؤسسة، كل قانون، كل شارع، وكل قرار، قابلًا للوصول… لا بالجسد فقط، بل بالحق والمكانة والمشاركة.
فالسيادة لا تُقاس فقط بالسلاح أو القانون، بل بمن لا نتركهم خلفنا حين نمضي نحو المستقبل.