القسم الأول
الفصل الثاني والعشرون الوظيفة الإدارية للدولة
من التنظيم العام إلى شبكة الإعاقة والسيطرة
مدخل فلسفي–تشريحي:
الإدارة ليست فقط هيكلًا وظيفيًا،
بل هي التعبير العملي عن حضور الدولة في حياة الناس،
وهي المعيار الأصدق لقياس عدالة السلطة أو عبثيتها.
فحين تعمل الإدارة بكفاءة، يشعر المواطن بأن الدولة في خدمته،
وحين تتحول إلى أداة تسويف أو إذلال،
تغدو الدولة نفسها عبئًا، بل خصمًا يوميًا.
وفي سوريا، لم تكن الدولة الإدارية مجرّد كيان ضعيف،
بل كانت، على العكس، كيانًا شديد الحضور… في المنع، لا في التيسير،
في التعقيد، لا في الحل،
وفي إعادة إنتاج السلطة عبر الطوابير، لا عبر الحقوق.
ولهذا، فإن تحليل الوظيفة الإدارية للدولة السورية يكشف عن جوهر التسلّط المقنّن،
وعن كيفية صناعة “مؤسسة لا تحكم بالقانون، بل تتحكم به”،
وعن الطرق التي تم بها تحويل الإدارة إلى شبكة خنق بطيء للحياة العامة،
وليس وسيلة لتنظيمها أو تنميتها.
أولًا: من الدولة الخدمية إلى الدولة المانعة – حين تتحول الإدارة إلى سلطة فوق المواطن
لم تكن أجهزة الدولة في سوريا، منذ عقود، أدوات لتسهيل حياة المواطن،
بل كانت تشكّل في وعي الناس “غابة من الإجراءات”،
و”سلسلة من الممرات الإلزامية” التي يجب عبورها بتذلل أو واسطة.
فقد تحوّلت الوظيفة الإدارية من:
- خدمة عامة → إلى سلطة تعسفية.
- نظام إجراءات → إلى نظام عرقلة.
- علاقة قانونية → إلى علاقة ابتزاز.
- مؤسسة لتنظيم الشأن العام → إلى ساحة لإظهار هيبة الدولة وإذلال المواطن.
وكانت النتيجة بنية إدارية قائمة على:
- التراكم البيروقراطي،
- ضعف الرقابة،
- التداخل المؤسسي،
- غياب الشفافية،
- وتحويل الموظف من خادم للشأن العام إلى “سيّد صغير” على رقاب الناس.
ثانيًا: المحسوبية والولاء بدل الجدارة – تدمير مبدأ الكفاءة الوظيفية
أخطر ما أصاب الوظيفة الإدارية في سوريا هو انهيار قاعدة الجدارة.
فقد أُقصي مبدأ الكفاءة لصالح:
- الولاء السياسي،
- الانتماء الطائفي،
- العلاقات الشخصية،
- والفساد المُمنهج كآلية صعود وظيفي.
وباتت الوظيفة العامة:
- تُمنح كمكافأة،
- وتُسحب كعقوبة،
- وتُسيَّر بأوامر لا بمعايير،
- وتُدار بعقلية “مزرعة”، لا “مؤسسة”.
ففقدت الإدارات كوادرها المؤهلة،
وتحوّلت إلى بيئة طاردة للكفاءة،
ومأوى للانتهازية والخضوع.
ثالثًا: المركزية المفرطة – احتكار القرار، وتعطيل الدولة
رغم اتساع الجغرافيا السورية،
فقد ظلّ القرار الإداري محتكرًا في العاصمة،
وتحديدًا في يد نخبة ضيقة من مسؤولي المكاتب المركزية.
وبدل تمكين المحافظات والمناطق من إدارة شؤونها،
جرى تكبيلها بنظام بيروقراطي متضخم،
يُلزم أبسط إجراء بموافقة “الجهات المعنية”،
و”تواقيع لا تُحصى” على كل ورقة.
وهكذا، أصبحت:
- الإدارات المحلية بلا صلاحيات،
- الوحدات الإدارية رهائن للموافقة المركزية،
- والمجالس البلدية مجرد ديكور إداري بدون أدوات فعلية.
فالمركزية هنا لم تكن فقط اختيارًا تنظيميًا،
بل كانت وسيلة سيطرة، ومنع، وضبط أمني مقنّع.
رابعًا: فساد إداري بنيوي – من الانحراف إلى الثابت المؤسسي
الفساد في سوريا لم يكن مجرد انحراف فردي،
بل تحوّل إلى جزء من “ثقافة إدارية” معترف بها ضمنيًا:
- الرشوة شرط غير معلن لتسيير المعاملات،
- الوساطة أداة للوصول إلى الحقوق،
- الابتزاز طريقة للحصول على الخدمات،
- وأداء الموظف يرتبط بمدى ولائه، لا بكفاءته.
وبدل أن تكون مؤسسات الدولة هي الضامن للحقوق،
أصبحت:
- مصدرًا للمماطلة،
- وسوقًا للزبائنية،
- ومرآةً لسلطة بلا أخلاق ولا حدود.
خامسًا: التداخل الأمني والإداري – الإدارة تحت عيون المخابرات
لم تكن المؤسسات الإدارية في سوريا مستقلة عن الأمن،
بل كانت تعمل “تحت نظره”، وفي كثير من الأحيان “بتوجيه منه”.
- التعيينات تُراجع أمنيًا.
- قرارات النقل تُفحص سياسيًا.
- التقارير الدورية تُعدّ أمنيًا لا مهنيًا.
- الأداء يُقاس بالولاء، لا بالنتائج.
وهكذا، لم تعد الإدارة مجرّد جهاز تنفيذي،
بل غدت ذراعًا من أذرع القمع،
ومساحة تجنيد للمخبرين،
ومجالًا لإعادة إنتاج الطاعة… بأدوات “مدنية”.
سادسًا: نتائج هذه البنية – دولة عاجزة عن خدمة مجتمعها
النتائج الطبيعية لهذه المنظومة الإدارية المختلّة كانت كارثية:
- ضعف الخدمات العامة،
- انهيار الثقة بين المواطن والدولة،
- هروب الكفاءات،
- شلل التنمية المحلية،
- تعمّق المركز–هامش،
- وظهور “مراكز سلطة غير رسمية” (شخصيات، شبكات، متنفذين) تحكم من خارج المؤسسة.
وهكذا، لم تفشل الدولة الإدارية فقط،
بل فشلت في أن تُقنع المواطن بأنها موجودة لأجله أصلًا.
خاتمة الفصل: لا نهضة بلا إدارة… ولا إدارة بلا سيادة للقانون والجدارة
في مشروع النهضة،
لا يمكن بناء دولة جديدة فوق ركام إداري متعفّن،
ولا يمكن استعادة الثقة العامة بدون إدارة فعالة، نزيهة، شفافة، وقابلة للمساءلة.
ولهذا، فإن إصلاح الدولة الإدارية لا يعني إعادة هيكلتها فقط،
بل إعادة تعريف وظيفتها بالكامل، على أسس:
- السيادة القانونية،
- اللامركزية المنظّمة،
- مبدأ الجدارة،
- الفصل بين الوظيفة والإخضاع،
- تحويل الإدارة من عبء على المواطن إلى مساحة كرامته اليومية.
الإدارة ليست تفصيلًا تقنيًا،
بل هي ساحة للعدالة،
ومعبر يومي نحو معنى الدولة.
ومن لا يملك إدارة نزيهة،
لا يمكنه أن يحلم بنهضة،
ولا أن يبني وطنًا قابلًا للحياة.