web analytics
القسم التاسع – الباب الأول

الفصل الثاني المواطنة والسيادة

من الرعايا إلى شركاء في القرار

مقدمة تأسيسية: من الرضوخ إلى الشراكة – قلب مفهوم العلاقة بين المواطن والدولة

في الدولة الاستبدادية، لا يكون الإنسان مواطنًا، بل “رعية”. والرعية لا تُسأل، ولا تُشارك، بل تُطاع. فهي موضوع للسلطة لا شريكًا فيها.

ولعقود طويلة، عاش السوريون تحت هذا النموذج المقلوب: دولة تَحكم لا تمثّل، ومواطن يُدار لا يُستشار، وسلطة ترى الناس عبئًا يجب ضبطه، لا مصدرًا لشرعيتها.

في هذا السياق، تم تدمير جوهر المواطنة بوصفها علاقة ندّية بين الفرد والدولة، تقوم على الحقوق والواجبات، والمسؤولية المتبادلة، والمشاركة الواعية في صياغة المصير.

واختُزل مفهوم “الانتماء” إلى خضوعٍ أمني، أو تصفيقٍ سياسي، أو نجاةٍ فردية داخل منظومة مغلقة.

أما مشروع النهضة، فيرى أن لا سيادة حقيقية دون مواطن سيادي. وأن المواطن هو الأصل، والدولة أداة تعبير عن إرادته الجمعية. وأن المواطنة ليست شعارًا في الدساتير، بل ممارسة حية، تتجسد في القرارات والسياسات والعدالة والكرامة.
ومن هنا، فإن استعادة المواطنة ليست مطلبًا قانونيًا، بل فعلًا سياديًا مؤسسًا، يُعيد تشكيل معنى الدولة من جديد.

أولًا: المواطنة المغتصبة – تشريح لحظة الرعايا

1 مفهوم الرعية في عقل الدولة التسلطية

لم يكن المواطن في سوريا يُنظر إليه بوصفه مالكًا للسيادة، بل خاضعًا لها.
فالولاء الشخصي، والانتماء الحزبي، والانضباط الأمني، كانت معايير الانتماء الحقيقي إلى “الدولة”.
أما من لم يكن جزءًا من هذه المنظومة، فكان يُعامل كـ”خارج” عن الدولة – حتى لو كان يحمل أوراقها الرسمية.

الرعية لا يُطلب منها فهم القانون، بل الخوف منه. ولا يُمنح لها الحق بالمشاركة، بل يتم تلقينها كيف تطيع، ومتى تصمت.

  1. احتكار القرار وتجريم الرأي

كانت المشاركة السياسية وهمًا خاضعًا للرقابة، والانتخابات مجرّد طقوس للشرعية الشكلية.
تم تهميش الأحزاب، وتحويل النقابات إلى أدوات ضبط، وشيطنة أي مبادرة مجتمعية خارج الأطر الرسمية.
وهكذا، فقد المواطن كل شعور بالقدرة على التأثير، وتحول إلى كائن سياسي عاجز، لا صوت له، ولا دور إلا الرضى الصامت أو الغضب اليائس.

  1. انعدام التوازن بين الحقوق والواجبات

طالما طُلب من السوري أن يكون “وطنيًا”، دون أن يحصل على ما تضمنه له المواطنة من حقوق:
– لا تعليم يحترم عقله،
– لا قانون يحمي كرامته،
– لا اقتصاد يضمن عيشه،
– لا مؤسسة يسمع فيها صوته.

فكانت الدولة تطالبه بالانتماء، بينما تمارس عليه التهميش والتخوين.

ثانيًا: إعادة تأسيس المواطنة في الدولة السيادية

  1. المواطنة كركيزة للسيادة

في مشروع النهضة، لا يمكن الحديث عن “السيادة الوطنية” دون تفكيك السيادة السلطوية التي تحتكر القرار.

فالمواطنة تعني أن القرار العام يُبنى على مشاركة حقيقية، وأن السيادة لا تخص النخبة أو الحزب أو الطائفة، بل هي تعبير جمعي عن الإرادة العامة.

  1. المواطنة بوصفها عقدًا متبادلًا

ليست المواطنة منحة من الدولة، بل عقدٌ تعاقدي بين الفرد والمؤسسة:
– على المواطن أن يشارك، ويحترم القانون، ويسهم في بناء الدولة،
– وعلى الدولة أن تضمن له حقوقه كاملة دون تمييز، وتستمع إلى صوته، وتحترم خياراته، وتُخضع نفسها للمساءلة.

  1. المساواة الجوهرية دون تمييز

لا مواطنة دون مساواة كاملة أمام القانون، بغض النظر عن الطائفة، أو القومية، أو الجندر، أو الوضع الاقتصادي.
وفي سوريا، حيث تعمقت الفجوة بين “الوطنيين” و”المدانين سلفًا”، وبين “الأبناء” و”الخصوم”، فإن إعادة المساواة ليست عدالة فحسب، بل فعل تحرير سياسي يعيد تعريف من هو السوري، ومن يملك الوطن.

4.المواطنة كوعي وفعل

لا يكفي النص على الحقوق، بل يجب تمكين المواطن معرفيًا وسياسيًا ليكون فاعلًا في المجال العام.

فالمواطنة لا تُختزل في الانتخابات، بل تبدأ من المدرسة، ومن الحي، ومن التشاركية في الإدارة والخدمات، ومن الثقة بأن الصوت الفردي له أثر في المصير الجماعي.

ثالثًا: السياسات التنفيذية لتفعيل المواطنة السيادية

  1. إصلاح دستوري يُعيد تعريف السيادة

النص صراحة على أن السيادة للشعب، يمارسها عبر الهيئات المنتخبة، وليس عبر فئة أو زعيم أو مؤسسة عسكرية.

اعتبار المواطنة أساس الانتماء، لا الطائفة ولا العرق ولا الولاء السياسي.

  1. قانون مواطنة شامل

يحدد الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل مواطن.

يجرّم التمييز أو الامتيازات على أي أساس هوياتي أو حزبي أو مناطقي.

يضمن الحق في التنظيم، والاحتجاج، والتعبير، والمساءلة.

  1. إصلاح بنية المؤسسات السياسية

إعادة بناء المجالس المنتخبة على قاعدة التمثيل الحقيقي لا المحاصصة ولا التزوير.

تحويل البلديات والمجالس المحلية إلى ساحات تدريب عملي على المواطنة الفاعلة.

  1. تمكين المجتمع المدني المستقل

الاعتراف القانوني بحرية تأسيس الجمعيات والمنظمات المدنية.

تمويل شفاف ومستقل يضمن استقلالية الفاعلين المدنيين دون ارتهان خارجي أو داخلي.

إدماج منظمات المجتمع المدني في صياغة السياسات لا كمستشارين، بل كشركاء حقيقيين.

  1. التربية على المواطنة منذ الطفولة

تعديل المناهج لتعليم مفاهيم المواطنة، الحقوق، القانون، التعددية، والمسؤولية.

إدراج برامج درامية وثقافية تروّج لقيم المشاركة، والتعدد، ورفض الاستبداد.

تشجيع المدارس على تأسيس مجالس طلابية منتخبة بوصفها تمرينًا مبكرًا على المواطنة.

خاتمة:

إن جوهر التحوّل السيادي في سوريا ليس مجرد استبدال سلطة بأخرى، بل استعادة الإنسان السوري لحقه في أن يكون فاعلًا، لا تابعًا؛ مالكًا لقراره، لا مؤديًا لولاءاته.

فالمواطنة، في مشروع النهضة، ليست مكافأة على الصمت، بل شرط للنطق.
وليست هبة من الدولة، بل سببٌ لوجودها.

ومن لحظة الرعية المقهورة، نبدأ مسيرة المواطن السيادي، الذي يُسائل، ويشارك، ويصنع القرار، ويُعيد تعريف الوطن، لا كحدود تُحرس، بل ككرامة تُصان.