web analytics
القسم الخامس

الفصل الثاني الهوية والانتماء

من العصبية العضوية إلى العقد السياسي

مقدمة الفصل

حين يُولد الإنسان، لا يختار اسمه، ولا دينه، ولا قوميته،
بل يجد نفسه منغمسًا في هوية جاهزة:
عائلة، عشيرة، طائفة، إقليم، قومية…

هذه الهوية، على بداهتها،
تغدو في المجتمعات التقليدية قدرًا صارمًا،
يحدد خياراته، ومساراته، وولاءاته، وأعداءه أيضًا.

وفي المجتمعات التي فشلت في بناء مشروع وطني حديث،
كما هو حال سوريا،
تحولت هذه الهويات الأولية من روابط اجتماعية طبيعية،
إلى سجون فكرية وسياسية خانقة،
تعطل نمو الفرد، وتمنع تشكل هوية وطنية جامعة.

في هذا الفصل،
نسعى إلى تفكيك هذه المعضلة،
أن نحلل كيف انتقلت الهوية من كونها معطًى اجتماعيًا بسيطًا،
إلى أن غدت عصبية عضوية قاتلة،
وكيف يمكن اليوم تحويل مسار الانتماء:
من رابطة الدم والغريزة،
إلى رابطة العقد السياسي الحرّ القائم على الإرادة والندية والمساواة.

لأن النهضة الوطنية السورية، لن تقوم فوق عصبيات عمياء،
بل فوق إرادات حرة تتعاقد على بناء وطن مشترك.

أولًا: الهوية العضوية – جذورها وتحولها إلى قيد

1. الهوية كمعطى أولي

في سياق تاريخي طويل،
تكوّنت الهويات الاجتماعية الأولى كوسائل حماية وبقاء:

العشيرة كانت حماية في الصحراء.

الطائفة كانت حماية في مجتمع متعدد الأديان.

القرية كانت حماية في مواجهة الغزوات.

اللغة كانت حماية من الذوبان الثقافي.

وبهذا، لم تكن الهويات الأولية مشكلة بحد ذاتها،
بل كانت استجابة طبيعية لحاجات البقاء في مجتمعات لم تعرف الدولة الحديثة بعد.

2. تحوّل الهوية إلى عصبية عضوية

لكن مع دخول الحداثة السياسية إلى العالم،
ومع ظهور مفهوم الدولة الوطنية،
باتت هذه الهويات عبئًا خطيرًا حين:

لم تُهذب بالقانون،

ولم تُؤطر بالعقد الاجتماعي،

ولم تتحول إلى جزء من هوية وطنية أوسع.

فتحول الانتماء الأولي إلى عصبية عضوية مغلقة،
تعطل نشوء المواطن الحر،
وتنتج تبعيات سياسية واجتماعية تحكمها الولاءات العمياء لا العقل الحر.

3. العصبية كأداة سياسية للاستبداد

الأنظمة السلطوية،
خصوصًا في سوريا،
استثمرت في هذه العصبيات:

غذتها،

أججت مخاوفها،

ثم استخدمتها لتفتيت المجتمع والتحكم به.

فبدل أن يكون الولاء للدولة والقانون،
صار الولاء للعشيرة، أو للطائفة، أو للزعيم الذي يدّعي تمثيلها.

وهكذا أُجهضت نشأة الوطنية السورية الحديثة قبل أن تولد حقًا.

ثانيًا: الهوية والعقد السياسي – المفهوم البديل

1. من الانتماء العضوي إلى الانتماء التعاقدي

في الدولة الحديثة،
لا يُفرض الانتماء بالدم أو بالغريزة أو بالخوف،
بل يتم عبر الإرادة الحرة التي تتجسد في عقد اجتماعي صريح:

المواطن ليس ابن طائفة أو عشيرة، بل شريك متساوٍ في دولة القانون.

الحقوق لا تُمنح على أساس الانتماء، بل على أساس الإنسانية والمواطنة.

الولاء ليس لزعيم الجماعة، بل للدستور الذي يحمي الجميع بالتساوي.

2. العقد السياسي بصفته الرابطة العليا

العقد السياسي ليس شعارًا نظريًا، بل هو:

تنظيم إرادات حرة ضمن منظومة حقوق وواجبات واضحة.

تأسيس الدولة بوصفها الضامن للكرامة الفردية لا بوصفها حامية لطائفة أو مذهب.

نقل الولاء من الأشخاص والجماعات، إلى المؤسسات والقيم الدستورية.

بهذا ينتقل الانتماء من رابطة الدم والهوية الغريزية،
إلى رابطة الإرادة الحرة والعقلانية السياسية.

3. أهمية الخيار الشخصي في الانتماء

الحرية السياسية تعني أن:

أختار أن أكون جزءًا من الجماعة الوطنية،

أختار أن أرتبط بالدولة كفضاء للحرية والكرامة،

أختار أن أنتمي لعقد اجتماعي يحترم فرديتي لا يبتلعها.

لا قيمة لأي انتماء لا يُختار بحرية،
ولا معنى لأي هوية تُفرض بالإكراه.

ثالثًا: تفكيك الهويات الماقبل وطنية دون سحق التنوع

1. الاعتراف بالتنوع لا يعني تأبيد العصبيات

سوريا بلد متنوع:
دينيا، قوميا، مناطقيا، لغويا.

لا يُطلب من السوري أن ينكر أصله أو ثقافته أو لغته،
بل أن يدرك أن هذه الانتماءات الجزئية لا تسبق انتماءه الوطني،
ولا تمنحه امتيازات سياسية على حساب غيره.

التعدد غنى،
لكن شرطه أن يتعاقد الجميع على فضاء وطني جامع،
لا أن يتحول التنوع إلى مبرر لصراعات دامية لا تنتهي.

2. تحييد الهويات الأولية عن المجال السياسي

يجب أن تُفصل الهويات الثقافية والدينية عن الآلية السياسية:

لا طائفة تحتكر الدولة،

لا دين يفرض تشريعه على الجميع،

لا قومية تعتبر نفسها معيار الوطنية.

بهذا فقط يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع،
لا دولة الغالب بالقوة أو بالأكثرية العددية.

3. بناء هوية سياسية سورية حديثة

تُبنى الهوية الوطنية الجديدة عبر:

التعليم الذي يغرس قيم المواطنة والندية والمساواة.

الإعلام الذي يعزز التعددية دون إثارة العصبيات.

القوانين التي تحمي التنوع وتمنع الإقصاء والتمييز.

الدستور الذي ينص صراحة على مدنية الدولة ووحدتها فوق الانتماءات الفرعية.

رابعًا: تحديات الانتقال إلى هوية تعاقدية في سوريا

1. إرث الحرب والانقسام

عقد كامل من الحرب والدمار:

غذى المخاوف،

عمّق الكراهية،

أعاد إنتاج العصبيات بكل أشكالها.

2. ضعف مؤسسات الدولة

لا يمكن أن توجد هوية وطنية جامعة بدون مؤسسات دولة حيادية تحمي الجميع.

3. التدخلات الخارجية

قوى إقليمية ودولية استثمرت في الفتن الطائفية والعرقية،
وحاولت خلق كيانات موازية لدولة المواطنة.

4. غياب مشروع وطني جامع

حتى الآن،
لم ينجح أي طرف في طرح مشروع وطني جامع حقيقي،
يتجاوز منطق المحاصصة والهويات الفرعية.

خامسًا: آليات عملية للانتقال من العصبية إلى العقد السياسي

1. صياغة عقد اجتماعي جديد مدني وديمقراطي

يساوي بين جميع المواطنين دون تمييز.

يفصل بين الدين والسياسة.

يحمي التنوع دون أن يسمح له بتقسيم الوطن.

2. إصلاح التعليم والثقافة

تدريس قيم المواطنة والحرية والمساواة من المرحلة الابتدائية.

إعادة كتابة التاريخ بطريقة تعترف بالتعدد دون أن تقدسه أو تلعنه.

دعم الفنون والثقافة المدنية العابرة للهويات الفرعية.

3. تمكين مؤسسات المجتمع المدني

دعم النقابات والجمعيات التي تعمل على قضايا المواطنة وحقوق الإنسان.

محاربة أي محاولة لإحياء العصبيات تحت غطاء العمل المدني.

4. العدالة الانتقالية

الاعتراف بالجرائم والانتهاكات الفردية لا الجماعية.

بناء سردية وطنية تقوم على الحقيقة والإنصاف لا على الانتقام أو الإنكار.

خاتمة الفصل

إن بناء سوريا الحديثة لا يمكن أن يتم بإعادة تجميل العصبيات القديمة،
ولا بإخفاء الهويات الفرعية خلف شعارات جوفاء،
بل فقط عبر تأسيس هوية سياسية تعاقدية،
تقوم على حرية الأفراد،
وعلى شراكتهم الندية في بناء وطنهم.

لن يكون هناك وطن سوري حرّ،
ما لم يتحرر أفراده أولًا من قيد العصبية العضوية،
ويختاروا بإرادتهم الحرة أن يكونوا أبناء عقد لا أبناء قطيع.

هذا هو التحدي الأكبر،
وهو التحدي الحقيقي لمشروع النهضة السورية الذي نحمله.