web analytics
القسم العاشر – الباب الأول

الفصل الثاني آليات تداول السلطة من الشرعية الزمنية إلى التناوب الحقيقي

نحو بناء نظام تداولي مؤسسي يضمن انتقال السلطة واستمرار الاستقرار

 أولًا: جذور الإشكالية – احتكار السلطة وغياب التناوب كأداة تأبيد

في سياق الدولة السورية ما قبل الثورة، لم يكن غياب الديمقراطية محصورًا في تزوير الانتخابات أو قمع المعارضين فحسب، بل كان الخلل الأعمق متمثلًا في تحطيم آلية التداول كمنظومة انتقالية مشروعة ومنظمة للسلطة.

حكم الأسد الأب أكثر من 30 عامًا، ثم سلّم السلطة لابنه في نظام ملكي–جمهوري مقنّع. لم تُعرف سوريا تداولًا حقيقيًا للسلطة منذ الاستقلال، وتم قمع كل محاولة تغيير عبر آليات انقلابية أو دستورية شكلية تُكرّس الاستمرارية المطلقة.

وهكذا تحوّلت الشرعية السياسية إلى شرعية زمنية، تُقاس بعدد السنوات في الحكم لا بحجم الإنجاز، ما أدى إلى جمود مؤسسي، وانفصال كامل بين الدولة والمجتمع، وانهيار الثقة بالمسار السياسي برمّته.

 ثانيًا: التحديات البنيوية أمام تداول السلطة

تحقيق التناوب الحقيقي في سوريا يواجه خمس تحديات أساسية:

البنية الثقافية والسياسية التي تقدّس “الزعيم الأبدي.

ضعف المؤسسات الحزبية والسياسية، وغياب النخب القادرة على التنافس الديمقراطي.

الفراغ القانوني والتنفيذي في حالات انتقال السلطة، وغياب معايير متفق عليها.

تسييس الأجهزة الأمنية والعسكرية، التي تُستخدم لضمان بقاء السلطة لا حماية الدستور.

تدخّل القوى الخارجية في هندسة التحالفات وتثبيت الولاءات، مما يُجهض الاستقلالية الوطنية في التغيير السياسي.

 ثالثًا: الأسس النظرية لبناء تداول السلطة

تستند رؤيتنا إلى عدة قواعد نظرية:

نظرية جون لوك في العقد الاجتماعي التي تنزع عن الحاكم أي شرعية غير مشتقة من إرادة الناس، وتفترض قابلية استبداله سلميًا.

مبدأ الشرعية الدستورية المؤقتة، كما طوّره كارل شميت، الذي يرى أن السلطة تُمنح لا تُحتكَر، وتقع في قلبها إمكانية الانتقال المنظّم.

نموذج الحوكمة الديمقراطية التراكمية، والذي يضع التناوب بوصفه ركيزة لاختبار نضج النظام السياسي، لا فقط تغيير شخوصه.

وتجارب التحول الديمقراطي في كل من غانا، وتشيلي، وكوريا الجنوبية، التي أظهرت أن بناء نظام تناوب سياسي فعّال يتطلب تكاملاً بين الإرادة الشعبية، الإطار القانوني، والاستقلال المؤسسي.

رابعًا: خطوات العمل الممنهجة لبناء منظومة تداول سلطة فاعلة

  1. 1. دسترة مبدأ التداول الدوري للسلطة التنفيذية والتشريعية

تحديد ولاية رئيس الدولة بوضوح، ومنع أي تمديد استثنائي مهما كانت الظروف.

منع الترشح لعدد غير محدد من الدورات، وإقرار شرط التناوب الإجباري.

وضع آلية دستورية مفصّلة لانتقال السلطة بشكل سلمي ومنظّم، بما يشمل حالات الوفاة، الاستقالة، العزل، أو انتهاء الولاية.

  1. 2. تحصين الحياة الحزبية والمؤسسات التمثيلية

إصدار قانون أحزاب حديث يُمنع بموجبه احتكار السلطة من حزب واحد أو مرجعية واحدة.

تمويل الأحزاب على أسس عادلة شفافة، مع رقابة قضائية، وضمان حياد مؤسسات الدولة تجاهها.

إنشاء هيئة عليا مستقلة لتسجيل الأحزاب، وضمان بيئة سياسية تنافسية تحكمها قواعد المصلحة العامة.

  1. 3. فصل الأجهزة السيادية عن التنافس السياسي

منع العسكريين ورجال الأمن من الترشح أو تولي مناصب سياسية قبل مرور فترة زمنية انتقالية.

تحييد أجهزة الدولة السيادية عن العملية الانتخابية والبرلمانية، وتجريم تدخلها أو اصطفافها.

بناء مجلس أمن وطني تشاركي يراقب حيادية المؤسسات خلال فترات التغيير السياسي.

  1. 4. مأسسة التداول ضمن الإدارة العامة والسلطة المحلية

تطبيق مبدأ التناوب الوظيفي في الإدارات العليا، ومنع التعيينات الدائمة أو الأبدية في مفاصل القرار.

تحديد ولاية رؤساء البلديات والمحافظين ومدراء المؤسسات، وتفعيل آلية المساءلة المحلية والمجالس المنتخبة.

منع تركّز السلطة بيد شبكات الولاء والمحسوبية عبر تطبيق قواعد صارمة للشفافية.

 خامسًا: التصور التنفيذي المقترح ضمن خارطة استدامة التداول

  • المرحلة الأولى (0–12 شهرًا)

إقرار المواد الدستورية الخاصة بالتداول والتناوب.

صياغة قانون الأحزاب والانتخابات التمثيلية.

تشكيل الهيئة العليا لضمان الحياد السياسي للمؤسسات.

  • المرحلة الثانية (سنة 1–3)

إجراء أول دورة انتخابات تنافسية نزيهة على مستوى السلطة التشريعية والرئاسية.

مراقبة أداء المؤسسات خلال انتقال السلطة، ومعالجة نقاط الضعف التشريعي أو التنفيذي.

تفعيل مراكز الدراسات السياسية المرتبطة بالرقابة البرلمانية.

  • المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)

إقرار آلية تقييم دوري لممارسة التداول السياسي في البلاد.

تنظيم دورات تدريب للكوادر الحكومية والإدارية على التناوب كوظيفة لا تهديد.

إنتاج دليل وطني للتداول السياسي يشمل المبادئ والممارسات والتوصيات.

سادسًا: التداول السياسي كشرط سيادي لا كترف ديمقراطي

إن النظام الذي لا يُبدّل قيادته بطريقة مؤسسية ومنظمة، لا يملك استدامة سيادية حقيقية، بل يعيش تحت تهديد الانفجار الداخلي أو الانقلاب الخارجي.

وفي سوريا الجديدة، لن يُبنى الاستقرار على وهم القيادة الدائمة أو الاصطفاف الحزبي الأبدي، بل على قاعدة مؤسسية تقول:
السلطة تُمنَح وتُستبدَل. والشرعية تُكتسب وتُساءَل. والدولة ليست ملكًا لأحد، بل وظيفة جماعية متجددة لخدمة الجميع.