web analytics
القسم السادس – الباب الأول

الفصل الثاني إصلاح جهاز الأمن الداخلي

من سلطة فوق الدولة إلى مؤسسة وطنية دستورية

مقدمة الفصل

في الأنظمة القمعية،
لا يكون جهاز الأمن الداخلي حاميًا للدولة أو خادمًا للمجتمع،
بل يتحول إلى دولة فوق الدولة:
دولة خفية تحكم الناس بالخوف، وتراقب أنفاسهم، وتصادر حياتهم الخاصة.

في سوريا ما قبل مشروع النهضة،
كان جهاز الأمن الداخلي -بأجهزته المتعددة-
هو الحاكم الفعلي،
صاحب السلطة المطلقة بلا قيد ولا مساءلة.

لقد كانت معادلة السلطة بسيطة ووحشية:
الأمن أولًا، الوطن لاحقًا، الإنسان لا شيء.

في مشروع النهضة،
نحن لا نهدف إلى تدمير مفهوم الأمن،
بل إلى إعادة تأسيسه وفق رؤية جديدة:
الأمن خادم للدولة والمجتمع، لا سيدًا عليهما.

أولًا: فهم طبيعة الانحراف الأمني في سوريا السابقة

أ- البنية القمعية

تعدد الأجهزة الأمنية (أمن الدولة، الأمن السياسي، الأمن العسكري، أمن المخابرات الجوية…) بدون رقابة حقيقية.

تضارب الصلاحيات عمدًا لتعزيز سلطة الأجهزة لا الدولة.

توظيف الأمن كأداة لضمان الولاء السياسي، لا لحماية الأمن الوطني.

ب- الممارسات الخارجة عن القانون

الاعتقال التعسفي دون مذكرة قانونية أو محاكمة عادلة.

التعذيب كأداة منتظمة للتحقيق والقمع.

المراقبة الدائمة للمواطنين في حياتهم اليومية.

تدخل الأمن في كل تفاصيل الحياة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية.

ج- غياب المساءلة

الحصانة الكاملة للعاملين في الأجهزة الأمنية.

استحالة مقاضاة أي عنصر أمني بغض النظر عن جرائمه.

غياب أي رقابة برلمانية أو قضائية أو مدنية.

ثانيًا: المبادئ المؤسسة لإصلاح جهاز الأمن الداخلي

خضوع الأمن للدستور والقانون:
لا يجوز للأمن أن يعمل خارج إطار الدستور ولا فوقه.

حصر دور الأمن بحماية أمن الوطن والمواطن:
لا علاقة للأمن بالسياسة أو الحياة المدنية أو الرقابة على الأفكار.

فصل الأمن عن السلطة التنفيذية المباشرة:
يكون جهاز الأمن مرتبطًا بمجلس الأمن الوطني الدستوري، وليس برأس السلطة الحاكمة وحده.

الشفافية والمسؤولية:
يخضع عمل الأجهزة الأمنية لمراجعة منتظمة من قبل القضاء والبرلمان.

حماية الحقوق والحريات:
يحظر على الأجهزة الأمنية التدخل في شؤون المواطنين بدون سند قانوني واضح.

المساءلة والمحاسبة:
كل تجاوز أو انتهاك من قبل رجال الأمن يُعرضهم للمحاسبة القضائية والمدنية.

ثالثًا: خريطة إعادة بناء جهاز الأمن الداخلي

أ- إعادة تعريف الوظيفة الأمنية

حصر مهام الأمن في:

مكافحة التجسس والتهديدات الخارجية.

مكافحة الإرهاب الحقيقي ضمن إطار القانون الدولي.

حماية الأمن الوطني بما لا يتعارض مع الحريات الأساسية.

ب- حل الأجهزة الأمنية القائمة

إلغاء جميع الأجهزة الأمنية التي ثبت تورطها في انتهاكات منهجية.

إنهاء التداخل بين الأجهزة المختلفة وإنشاء جهاز واحد مركزي متخصص.

ج- تأسيس جهاز أمن وطني دستوري

إنشاء جهاز “الأمن الوطني السوري”
مرتبط مباشرة بمجلس الأمن الوطني الدستوري.

مهامه واضحة، محددة بالقانون،
ولا يجوز له الخروج عنها أو تجاوز حدوده.

د- معايير التوظيف والتدريب

اختيار الكوادر عبر اختبارات صارمة للكفاءة والنزاهة.

استبعاد كل من يثبت تورطه في انتهاكات لحقوق الإنسان.

تدريب الأجهزة على:

القانون الدستوري.

حقوق الإنسان.

أصول التحقيق العادل وغير القسري.

العمل الاستخباراتي المحترف ضمن حدود القانون.

هـ- إنشاء آليات رقابة فعالة

لجنة رقابية برلمانية دائمة للأمن الداخلي.

وحدة شكاوى مدنية مستقلة للتحقيق في تجاوزات رجال الأمن.

قضاء مستقل للنظر في الدعاوى ضد الأجهزة الأمنية.

رابعًا: إعادة بناء العلاقة بين الأمن والمجتمع

الأمن خادم للمجتمع، وليس جلادًا له.

يجب أن يثق المواطن أن الأمن يحميه لا يتجسس عليه.

إدماج المجتمع المدني في تقييم أداء الأجهزة الأمنية.

نشر الثقافة الأمنية القائمة على احترام الحقوق والقانون بين صفوف الضباط والعناصر.

خامسًا: دروس مقارنة ملهمة

1.ألمانيا بعد انهيار جهاز “الشتازي“:
تم تفكيك جهاز الأمن القمعي بالكامل،
وبُني جهاز جديد شفاف خاضع للقانون.

2. جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري:
أعيد بناء جهاز الأمن تحت رقابة دستورية صارمة،
مع برامج تدريبية مكثفة على احترام الحقوق.

3.أوروبا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشيوعية:
تفكيك الأجهزة الشمولية القديمة،
وإنشاء مؤسسات أمنية مهنية مدنية.

سادسًا: التحديات والعوائق

مقاومة التغيير من داخل الأجهزة الأمنية القديمة.

محاولة قوى إقليمية ودولية الإبقاء على أجهزة قمعية تخدم مصالحها.

هشاشة الثقة الشعبية بسبب إرث القمع.

خطر الإرهاب العابر للحدود الذي قد يُستغل لتبرير انتهاكات جديدة.

كل هذا يتطلب تصميماً دقيقاً لعملية الإصلاح،
ومثابرة على تنفيذ مبادئ الدولة الدستورية دون انحراف.

خاتمة الفصل

لا نهضة بدون أمن،
ولا أمن بدون قانون،
ولا قانون بدون أن تكون الأجهزة الأمنية خادمة للدولة والمجتمع،
لا سيدًا عليهما.

مشروع النهضة لا يسعى إلى دولة بلا أمن،
بل إلى دولة يُحمى أمنها بحماية حقوق إنسانها،
وتُحمى قوتها بقوة عدالتها،
ويُحمى نظامها بنظام قانوني لا يعرف الخوف،
بل يعرف الحرية المسؤولة.