القسم الثالث عشر – الباب الأول
الفصل الخامس السياسة المرحلية للمناطق الخارجة عن السيطرة
من الانفصال الواقعي إلى إدارة الدمج السيادي
مقدمة تمهيدية
حين تُفكّك الدولة بفعل الحرب، لا تعود السيادة مجرد مبدأ قانوني، بل تصبح معركة يومية لاستعادة الجغرافيا، وإعادة لحمة المؤسسات، واسترجاع المعنى الجامع لاسم الوطن.
في سوريا، خلفت سنوات الحرب والاحتلال والتذرر السياسي واقعًا جغرافيًا–سياسيًا شديد التعقيد: مناطق تسيطر عليها قوى أجنبية، مناطق تحكمها فصائل محلية أو جماعات الأمر الواقع، ومناطق تحكمها سلطات انفصالية بحكم الواقع لا النص.
إن إعادة هذه المناطق إلى كنف الدولة لا يمكن أن تتم بالقوة المجردة وحدها، ولا بالشعارات، ولا بإعادة إنتاج نموذج مركزي فاشل. بل تحتاج إلى سياسة مرحلية مركّبة، ذكية، مرنة، تجمع بين الأدوات السيادية والواقعية، وتستند إلى فهم معمّق لخصوصيات هذه المناطق، وخريطة القوى الفاعلة فيها، والمخاوف والتحديات التي تعانيها.
في مشروع النهضة، لا يُنظر إلى هذه المناطق بوصفها هامشًا أو خطرًا فقط، بل بوصفها اختبارًا حقيقيًا لمفهوم الدولة الجديدة: دولة لا تنتقم من الماضي، بل تبني المستقبل، وتُعيد اللحمة لا بالإخضاع بل بالدمج السيادي العادل.
أولًا: توصيف الواقع الجغرافي والسياسي للمناطق الخارجة عن السيطرة
ينقسم المشهد السوري – بعد سقوط النظام المركزي القديم – إلى ثلاثة أنماط رئيسية من المناطق الخارجة عن السيطرة السيادية الكاملة:
مناطق خاضعة لسيطرة قوى محلية متحالفة مع مشاريع أجنبية (كشرق الفرات الخاضع للإدارة الذاتية الكردية المدعومة أميركيًا).
مناطق تسيطر عليها جماعات جهادية أو فصائل مسلحة مستقلة ( كإدلب وبعض جيوب شمال غرب سوريا ).
مناطق ذات طابع طائفي أو إثني خاص تعيش حالة من الانغلاق أو الحذر الذاتي( كالسويداء وبعض مناطق الساحل والجنوب)
هذه المناطق تختلف في تموضعها، وبنيتها، ومطالبها، ودرجة قبولها بفكرة الدولة المركزية، لكنها تتفق في كونها خارج الإطار السيادي الموحّد للدولة، ما يجعل منها موضعًا حاسمًا لأي سياسة انتقالية ناجحة.
ثانيًا: الغاية من السياسة المرحلية
تسعى السياسة المرحلية للمناطق الخارجة عن السيطرة إلى ما يلي:
وقف مسار التذرر والتفكك الجغرافي، ومنع تكريس واقع الانفصال السياسي أو العسكري.
تجنيب هذه المناطق سيناريوهات الحرب الأهلية أو الاجتياح العسكري المفتوح.
بناء مسار واقعي للدمج التدريجي ضمن إطار سيادي جامع، لا يلغي الخصوصيات، ولا يسمح بتفتيت السيادة.
تحويل أدوات اللامركزية إلى جسور للعودة لا إلى ممرات للتفكك.
وتقوم هذه السياسة على مبدأ الدمج السيادي التدريجي، لا الهيمنة الفورية، وعلى أن إعادة السيطرة يجب أن تمرّ عبر الإدارة لا العسكرة، وعبر الحوار السيادي لا فرض النموذج.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
توقيع “اتفاقيات دمج مرحلية” مع السلطات المحلية المؤقتة:
تُبقي على بعض مؤسسات الإدارة المحلية تحت إشراف مباشر من الدولة السيادية.
تُمنح فيها صلاحيات مؤقتة مقابل التزام مشروط بإعادة الدمج ضمن الجدول الزمني للانتقال.
إطلاق “برنامج إعادة البناء الإداري–المجتمعي“:
يتضمن إدخال المؤسسات المركزية تدريجيًا (قضاء، أحوال مدنية، تعليم، صحة، إحصاء).
تدريب الكوادر المحلية بالتوازي مع إعادة هيكلة الإدارات ضمن معايير السيادة والمواطنة.
إنشاء لجان مصالحة مجتمعية مدعومة بسياسات الحماية:
تتولى التعامل مع الملفات الشائكة (الانتماءات السياسية، الثأر، الحساسيات الإثنية).
تُضمن أمن السكان، وتمنع حملات الانتقام أو الإقصاء.
اعتماد صيغة “الإدارات اللامركزية الخاصة” لفترة انتقالية:
تمنح صلاحيات محددة للمناطق الخارجة عن السيطرة، في إطار إداري لا سياسي.
تُضبط دستوريًا بموجب مواد مؤقتة تُلغى تلقائيًا بانتهاء المرحلة الانتقالية.
ضمانات دولية–وطنية للدمج دون إخلال بالخصوصيات:
تقديم وثيقة وطنية تضمن الحقوق الثقافية والمحلية لجميع المكونات، مقابل التزامها بالوحدة السيادية.
نزع السلاح التدريجي للفصائل المحلية:
ضمن خطة واضحة لدمجها في أجهزة الدولة، أو تحويلها إلى تشكيلات خدمية غير عسكرية.
رابعًا: منطق التعامل مع الواقع دون التفريط بالسيادة
هذه السياسة لا تقترح الاعتراف بكيانات مستقلة، ولا القبول بالأمر الواقع كحل دائم، بل تنطلق من فهم عميق للواقع المتشظي، وتوظف أدوات واقعية لتفكيكه لا تكريسه.
إن السيادة في هذا الإطار ليست شعارًا يُفرض بالقوة، بل حالة تُعاد بناؤها عبر أدوات متدرجة: الاعتراف بالمخاوف، معالجة الملفات الأمنية، بناء الثقة، ثم استعادة السلطة السيادية بصفتها مرجعية لا غلبة.
وفي المقابل، فإن رفض هذه السياسة، أو محاولة فرض الدمج بالقوة، سيؤدي إلى ارتكاب نفس أخطاء النظام القديم، ودفع البلاد إلى إعادة إنتاج دورة العنف والانقسام.
خامسًا: التحديات والاشتراطات
رفض بعض المكونات أو الجماعات لفكرة العودة للدولة تحت أي مسمى.
الضغوط الدولية لحماية المشاريع الخاصة أو الكيانات الانفصالية.
خطر الفوضى الأمنية في غياب سلطة موحدة فعلية.
الخشية من الانتقام أو التصفية في المناطق التي كانت خاضعة لقوى مسلحة غير شرعية.
ولهذا، لا بد أن ترافق هذه السياسة منظومة صارمة من الضمانات، والمؤسسات الرقابية، والتحكيم السيادي، كي لا تتحوّل إلى مساومة على وحدة البلاد، أو إلى نموذج تقسيمي مقنّع.
خاتمة
إن المناطق الخارجة عن السيطرة ليست عارًا وطنيًا، بل مسؤولية وطنية.
هي النتيجة الطبيعية لحكم مستبد دمّر الدولة، وسمح بتمزيقها. لكنها أيضًا الفرصة الأعظم لاختبار مصداقية الدولة الجديدة: فإما أن تعود كدولة سيادة وكرامة وعدالة، أو تسقط مرة أخرى في منطق الإكراه والهيمنة، وتخسر كل معنى للنهضة.
في مشروع النهضة، لا نُراهن على القوة، بل على العدالة، ولا على الإخضاع، بل على الدمج السيادي، ولا على الطوارئ، بل على المؤسسات. وهذه السياسة هي الطريق الصعب، لكنها الطريق الوحيد نحو سوريا واحدة، ممكنة، عادلة.