القسم الخامس عشر – الباب الأول
الفصل الخامس الإنسان في قلب الدولة
من التشييء إلى التمكين
مقدمة الفصل
في سوريا، كما في أغلب الأنظمة السلطوية، لم يكن الإنسان يومًا هو المركز، بل كان مجرد أداة في آلة الدولة، أو رقمًا في ملفات الأمن، أو شعارًا في خطب السلطة.
كان التشييء هو القاعدة: الإنسان يُجرَّد من إرادته، من صوته، من قدرته على الفعل، ويُحاصر بالخوف، والاحتياج، والرقابة.
وبهذا، لم تعد الدولة حامية له، بل حاجزًا بينه وبين ذاته.
في مشروع النهضة، تبدأ كل عملية التأسيس من رفض هذا المنطق.
فالإنسان ليس تابعًا، ولا رهينة، ولا “موردًا بشريًا” ضمن معادلات السلطة، بل هو جوهر الدولة، مقياس سيادتها، ومعيار أخلاقها، وغايتها القصوى.
ومن هنا، يُعاد تصميم الدولة كلها – من قوانينها إلى سياساتها، من مؤسساتها إلى أولوياتها – انطلاقًا من تمكين الإنسان، لا السيطرة عليه.
أولًا: من الفرد المُجرَّد إلى الإنسان الكامل
في العقود الماضية، كان الفرد في سوريا يُختزل في خانتين: مواطن خاضع، أو مشتبه به.
وكانت الدولة تعامله ككائن إداري، تُلزمه بالطاعة، وتحرمه من القرار، ولا تعترف له بالكرامة إلا إذا صمت أو نافق.
أما في المشروع النهضوي، فالإنسان يُعاد إليه تكامله، ليس فقط بوصفه مواطنًا، بل بوصفه:
كائنًا حرًّا، عاقلًا، مسؤولًا، قادرًا على التفكير والاختيار والتغيير.
منتجًا للمعنى، وليس فقط مستهلكًا للسياسة أو مرؤوسًا في الدولة.
شريكًا في السيادة، لا متلقّيًا للسلطة.
حاملًا لقيم روحية وثقافية وعقلية، لا مجرد رقم في سجلات النفوس.
بهذا، تتحول الدولة من مؤسسة إدارة، إلى إطار لحماية الإنسان وتمكينه في ذاته، ومجتمعه، وتاريخه، ومستقبله.
ثانيًا: التمكين بوصفه فلسفة دولة لا سياسة قطاعية
لا يُختزل التمكين في تقديم الخدمات أو منح بعض الحقوق، بل هو فلسفة شاملة تُعيد بناء السياسات على قاعدة الارتقاء بالإنسان في جميع أبعاده.
ويتحقّق ذلك عبر:
تمكين سياسي: أن يشارك في صناعة القرار، لا أن يُستبعَد أو يُستغل.
تمكين اقتصادي: أن يُتاح له العمل والإنتاج والملكية، لا أن يُحاصَر بالحاجة أو الريع أو التبعية.
تمكين قانوني: أن يكون له الحق في الطعن، والشكوى، والاحتجاج، لا أن يُكمّم أو يُبتز.
تمكين معرفي وتعليمي: أن يُتاح له التفكير النقدي، والتحصيل، والاختلاف، لا أن يُلقَّن ويُخدَّر.
تمكين مجتمعي وثقافي: أن يُنظّم، ويُعبّر، ويُعبّر عنه، لا أن يُختزل في الهويات الضيقة أو الصور النمطية.
بهذا، لا يُمنح الإنسان “فضاءً” للحركة، بل يُعاد إليه فضاؤه الكامل بوصفه كيانًا سياديًا في ذاته.
ثالثًا: الإنسان في مواجهة البنى القامعة
في الدولة القديمة، كانت بنى القمع هي المحور:
الأمن السياسي فوق القانون،
الولاء فوق الكفاءة،
الجماعة فوق الفرد،
النظام فوق المجتمع.
وفي الدولة الجديدة، يُعاد تنظيم البنى لتكفّ عن افتراس الإنسان:
تفكيك البنى السلطوية التي تحتكر القرار وتمنع النقد.
تحويل الأجهزة الأمنية إلى أدوات حماية حقيقية لا أدوات قمع سياسية.
كسر احتكار المؤسسات الحزبية أو العقائدية أو العسكرية للفضاء العام.
حماية حرية الضمير، والهوية، والانتماء، دون فرض أو إقصاء أو وصاية.
فتمكين الإنسان لا يكتمل ما لم يُفكك ما يُكبّله ويُسحقه ويُدجّنه.
رابعًا: الإنسان كغاية السيادة لا وسيلتها
في مشروع النهضة، لا تُبنى الدولة لأجل مؤسساتها، ولا تُستمد شرعيتها من بقائها، بل من مدى خدمتها للإنسان وتمثيلها له وارتباطها به.
وكل سلطة، وكل سياسة، وكل قرار، يُسأل:
هل يحمي الإنسان؟
هل يُنصفه؟
هل يُنطقه بدل أن ينوب عنه؟
هل يراه بوصفه كائنًا سياديًا؟ أم أداة في يد الدولة أو الجماعة أو الزعيم؟
بهذه الأسئلة، تُبنى السيادة من تحت، لا تُفرض من فوق، ويُعاد للإنسان دوره كمنشئ للدولة، لا كمنسحب في ظلها.
خاتمة الفصل
في سوريا التي نريد، لا تكون الدولة فوق الإنسان، بل الإنسان فوق كل شيء:
فوق الولاء،
فوق الحزب،
فوق المؤسسة،
فوق الشعار.
لا نهضة بدون إنسان حر.
ولا سيادة دون مواطن ممكّن.
ولا دولة، إن لم تكن جوهرها هو الإنسان، ومعناها هو كرامته، وغايتها هي تمكينه من أن يعيش، ويختار، ويشارك، ويزدهر.