web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الثاني

الفصل السابع التربية على الرقابة

من المواطن المتلقّي إلى المواطن المراجع

مقدمة الفصل

لا تنبع الرقابة الفعّالة من القوانين والمؤسسات وحدها، بل من وعي مجتمعي يرى في الرقابة حقًا وواجبًا، وفي النقد وسيلة للبناء، وفي المشاركة في الشأن العام أحد أوجه الانتماء الوطني. ولهذا، لا يمكن الحديث عن نظام رقابي مستدام دون أن يكون المجتمع نفسه قد أُعدّ ثقافيًا ونفسيًا وفكريًا ليكون شريكًا فاعلًا في هذه الرقابة.

في مشروع النهضة، لا يُكتفى بإتاحة أدوات الرقابة، بل يُعاد تأسيس المواطن ذاته بوصفه فاعلًا رقابيًا واعيًا، لا متلقيًا سلبيًا، ولا تابعًا خائفًا، بل شخصًا يتربى منذ الطفولة على أن الدولة ملكه، وأن مسؤوليها موظفون لديه، وأن النقد شرف لا تهمة، والمشاركة واجب لا منّة.

أولًا: من ثقافة الطاعة إلى ثقافة التمكين

لقد كرّست الأنظمة الاستبدادية لزمن طويل ثقافة الطاعة والانقياد، وجعلت من الاعتراض فعلًا غير أخلاقي، ومن النقد خروجًا على “الإجماع”، ومن السؤال تهديدًا للاستقرار. في مواجهة هذا الإرث، تسعى التربية على الرقابة إلى:

تفكيك الخوف من السلطة بوصفها كيانًا مقدسًا لا يُسأل.

إعادة الاعتبار لفكرة أن الشك وسيلة معرفة، والنقد فعل وطني.

زرع قيم الجرأة على التساؤل، والتعبير الحر، والتفكير المستقل في العقل الجمعي.

تقديم القدوة الاجتماعية التي تُمارس الرقابة بشجاعة لا بعدوانية، وباحترام لا خضوع.

بهذا يُعاد بناء مواطن جديد: لا مطيعًا بشكل أعمى، ولا متمردًا بشكل فوضوي، بل ناقدًا مسؤولًا.

ثانيًا: المدرسة كفضاء للوعي لا للتلقين

تبدأ التربية على الرقابة من الصف الأول، لا من ساحات التظاهر.
ولهذا، يتضمن مشروع النهضة إصلاحًا تربويًا يجعل من المدرسة:

مساحة للتفكير النقدي، لا لحفظ المقررات وتكرارها.

مكانًا يُسمح فيه للطفل بالتشكيك، بالاعتراض، بطرح البدائل، ومساءلة الإجابات.

بيئة تُدرَّس فيها مفاهيم مثل: الشفافية، المحاسبة، الحقوق، الواجبات، آليات الرقابة العامة.

حقلًا تجريبيًا لممارسات الرقابة، من خلال انتخابات طلابية حقيقية، ومجالس صف تُراقب أداء الإدارة، وتُعطي ملاحظات.

هكذا تُزرع الرقابة في اللاوعي، لا بوصفها سلوكًا سياسيًا، بل ممارسة حياتية.

ثالثًا: الإعلام التربوي – صناعة وعي لا صناعة نجوم

في مجتمع تسوده وسائل الإعلام، تتحول التربية إلى صورة.
ولهذا، يلعب الإعلام دورًا تربويًا مركزيًا في بناء عقلية المواطن المراجع، عبر:

برامج تُبرز قصصًا حقيقية لأشخاص راقبوا السلطة وغيّروا قراراتها.

تقديم النقد البنّاء كممارسة حضارية، لا كسلوك عدواني.

فضح التملق والامتثال والانتهازية كقيم منحطة اجتماعيًا.

تخصيص مساحات دورية لعرض تقارير رقابية وملاحظات شعبية، بمنهجية تعليمية واضحة.

الإعلام هنا ليس وسيلة ضغط على الدولة فحسب، بل أداة تربية جماعية للناس على المشاركة والمساءلة.

رابعًا: الأسرة والمجتمع – رقابة تبدأ من الداخل

الرقابة لا تتشكل فقط في الفضاء العام، بل تُبنى في العلاقات اليومية داخل الأسرة والحي والمجتمع. ولهذا:

يجب إعادة النظر في التربية الأبوية السلطوية التي تُعيد إنتاج الطاعة العمياء في البيت كما في الدولة.

تشجيع الآباء والأمهات على فتح مساحات حوار ومساءلة داخل الأسرة، يتعلّم فيها الطفل أن من حقه أن يسأل ويُناقش.

تحويل الجمعيات الأهلية إلى فضاءات تدريب على التقييم والرقابة المحلية.

دعم المبادرات الشعبية التي تُقيم رقابة مجتمعية تطوعية على الخدمات، النظافة، التعليم، الصحة وغيرها، وتُعطي توصيات فعلية.

بهذا تصبح الرقابة سلوكًا اجتماعيًا، لا فقط وظيفة سياسية.

خامسًا: من المواطن المتلقي إلى المواطن المراجع – بناء الذات السيادية

غاية هذا الفصل ليست فقط تغيير نمط التعليم أو الإعلام، بل إعادة تشكيل الإنسان السوري كذات سيادية قادرة على:

التفكير خارج منظومات الدعاية والخوف.

التمييز بين التذمر غير المجدي والنقد البنّاء المنتج.

الموازنة بين احترام المؤسسات ومراقبتها، وبين الوطنية وحق الاعتراض.

تحويل الغضب من الواقع إلى فعل تغييري محكوم بالقانون والضمير.

في هذا السياق، لا يعود المواطن مجرد “متلقٍ للقرارات”، بل يتحوّل إلى “مراجع دائم للسلطة”، رقيبًا بالمعرفة، لا بالمزاج.

خاتمة الفصل

ليست الرقابة الأخلاقية والاجتماعية مجرد بنية مؤسساتية، بل هي ثمرة ثقافة، وزرع طويل المدى في وعي الناس.

وفي مشروع النهضة، لا تكتمل السيادة دون مواطن قادر على أن يراقب، ويُراجع، ويُصحّح، لا لأن الدولة تسمح بذلك، بل لأنها تأسست على هذا الأساس.

إن التربية على الرقابة هي التربية على الحرية، على الكرامة، على الإحساس العميق بأن “هذا البلد لي”، وأن “من يحكمه يجب أن يسمعني”.