web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الثالث

الفصل الثامن السياسة الصناعية والاستثمارية

من العطالة إلى التصنيع الذكي

مقدمة تمهيدية

ليست الصناعة مجرد نشاط اقتصادي، بل هي التعبير الأشد وضوحًا عن تحوّل الأمة من مستهلكة إلى منتجة، ومن تابعة إلى فاعلة، ومن خاملة إلى مبتكرة.

وفي سوريا، لم يكن غياب الصناعة عجزًا فنيًا، بل نتيجة سياسة متعمدة لإبقاء البلاد في حالة عطالة واعتمادية، حيث تم سحق البنية الصناعية الوطنية لصالح الريع، وتدمير ما تبقى منها عبر الحرب، والفساد، والتجريف التكنولوجي.

كانت البلاد تملك قاعدة صناعية متوسطة، لكن دون إرادة سيادية لتطويرها. واليوم، بعد انهيار الاقتصاد التقليدي، تقف سوريا أمام مفترق: إما أن تعود لتكون سوقًا للبضائع الخارجية ومسرحًا للمضاربة العقارية، أو تبني قاعدة صناعية ذكية، مستندة إلى الإمكانات المحلية، ومرتبطة بسياسات إنتاج وسيادة.

في مشروع النهضة، تُطرح السياسة الصناعية والاستثمارية لا كمجموعة قوانين جاذبة لرأس المال، بل كـإستراتيجية وطنية متكاملة، تُعيد بناء الإنتاج، وتحرّر رأس المال من الفساد، وتحوّل الصناعة إلى رافعة سيادية اقتصادية واجتماعية.

أولًا: تشريح الانهيار الصناعي والاستثماري في سوريا

تدمير البنية التحتية الصناعية خلال الحرب:

دُمرت آلاف المصانع، وتمت سرقة المعدات ونقلها، خاصة من حلب وريف دمشق.

تعطلت سلاسل التوريد، وانهارت المناطق الصناعية التقليدية.

هروب رأس المال الوطني:

نتيجة عدم الاستقرار، والبيروقراطية، والملاحقات الأمنية، وغياب ضمانات الاستثمار.

تحوّل الاستثمار إلى أداة نهب لا إنتاج:

ساد مناخ استثماري قائم على المحسوبية، والامتيازات السياسية، والمضاربة على العقارات.

لم تُبنَ أي مشاريع صناعية كبرى ذات قيمة مضافة حقيقية منذ عقود.

غياب السياسات التكنولوجية والبحث الصناعي:

لا معاهد صناعية محدثة، ولا شراكة بين التعليم والإنتاج، ولا سياسات تحفيز للابتكار.

الفساد كمحدد رئيسي للبيئة الاستثمارية:

قرارات الاستثمار خاضعة لمزاج الأجهزة، ورأس المال الوطني خاضع للابتزاز أو النفي.

ثانيًا: أهداف السياسة الصناعية والاستثمارية في مشروع النهضة

إعادة بناء القاعدة الصناعية الوطنية:

التركيز على الصناعات المتوسطة والصغيرة والمتقدمة، وفق خارطة إنتاج تراعي الواقع الجغرافي والموارد.

تحفيز رأس المال الوطني وتحقيق أمنه القانوني:

استعادة الثقة بالمؤسسات، ومنح المستثمر السوري امتيازات واقعية لا شعارات.

جذب الاستثمار الأجنبي الإنتاجي لا الريعي:

وفق ضوابط وطنية، ومجالات ذات مردود إنتاجي، وبشراكات عادلة.

نقل التكنولوجيا وتوطين المعرفة الصناعية:

بناء شراكات ذكية مع مؤسسات علمية وتقنية دولية، وربط الصناعة بالتعليم المهني والبحث العلمي.

تحويل الصناعة إلى محرّك نمو وتنمية:

ربط المناطق الصناعية بالبنى الريفية والحضرية المحيطة، وتحقيق دورة اقتصادية متكاملة.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إطلاق “الاستراتيجية الصناعية الوطنية 10/10:

خطة لعشر سنوات، تُركز على عشرة قطاعات ذات أولوية: (الصناعات الغذائية، النسيج، الأدوية، التجهيزات الزراعية، الطاقة المتجددة، تكنولوجيا المعلومات، الصناعات التحويلية، مواد البناء، الصناعات الطبية، والصناعات الصغيرة اللامركزية).

تأسيس “الهيئة الوطنية للاستثمار السيادي:

جهاز مستقل يُعنى بتوجيه الاستثمار وفق معايير السيادة والمردودية الإنتاجية، مع صلاحيات واسعة لحماية المستثمرين ومحاربة الفساد.

إعادة بناء المناطق الصناعية الكبرى:

حلب، عدرا، الشيخ نجار، دير الزور، حمص… مع تطوير بيئة لوجستية داعمة، وتشجيع مناطق صناعية جديدة في الجنوب والشرق.

تحديث قانون الاستثمار:

يُبنى على مبادئ العدالة، والشفافية، والاستقلال عن الأجهزة، ويوفر بيئة استثمارية عادلة لكل مواطن دون تمييز.

تأسيس “المجمعات الصناعية–التكنولوجية اللامركزية:

تربط بين الإنتاج والمعرفة، وتخلق فرص عمل في الأرياف والمناطق المحرومة، عبر مصانع صغيرة ومتوسطة مرتبطة بجامعات أو مراكز أبحاث محلية.

إعفاءات ضريبية ذكية محددة بزمن وجدوى:

للمشروعات الصناعية الإنتاجية ذات القيمة المضافة، مع مراقبة دورية لنتائج الدعم.

رابعًا: التحديات البنيوية

البنية التحتية المدمّرة: ما يتطلب برامج استثمار ضخمة في الطاقة والنقل والاتصالات.

ضعف البيئة القانونية والإدارية: ما يستدعي إصلاحًا شاملًا لمؤسسات الترخيص والرقابة.

نقص الكفاءات الصناعية والإدارية: ما يفرض ربط التعليم والإنتاج، وتوفير برامج تدريب وطنية عاجلة.

المنافسة من السلع الخارجية الرخيصة: ما يتطلب سياسات حماية ذكية وتدريجية.

 خامسة: الصناعة كرافعة سيادية

الصناعة ليست فقط باب رزق، بل هي ترس في ماكينة السيادة.
دولة لا تصنّع هي دولة تُستعبَد اقتصاديًا، حتى وإن رفعت رايات الاستقلال السياسي.

في مشروع النهضة، تُبنى الصناعة لتكون أداة تحرر، لا مجرد وسيلة للربح، ويُعاد تنظيم الاستثمار ضمن أولويات السيادة، لا أولويات السوق الوحشية أو الفساد الممنهج.

خاتمة الفصل

من دون إنتاج حقيقي، ستبقى الدولة تحت رحمة المانحين، والمضاربين، وشبكات النهب.
ومن دون صناعة ذكية، لن تنهض المدن، ولن تعود سوريا إلى موقعها الطبيعي في الاقتصاد الإقليمي.

السياسة الصناعية في مشروع النهضة ليست وعدًا استثماريًا، بل هي إعلان استقلال اقتصادي جديد، يعيد الاعتبار ليدٍ تُنتج، لا يدٍ تستهلك أو تتوسّل.