القسم الخامس عشر – الباب الثاني
الفصل الثامن أولويات العام الأول
الأمن، الغذاء، المؤسسات
مقدمة الفصل
السنة الأولى بعد سقوط النظام ليست مجرد مساحة زمنية، بل لحظة اختبار وجودي تُبنى فيها ملامح الدولة الجديدة أو يُعاد فيها إنتاج الفوضى بثوب آخر. في هذه السنة، لا ينجح المشروع النهضوي بالكلمات أو بالشعارات، بل بترجمة الرؤية إلى أدوات سيادية قادرة على حماية الحياة وتنظيمها واستعادة الثقة بها.
وفي سوريا الخارجة من الانهيار، تبدأ هذه الاستعادة من ثلاث أولويات لا يمكن تجاوزها: الأمن، الغذاء، والمؤسسات.
هذه ليست بنودًا قطاعية، بل أعمدة عقد اجتماعي جديد، تُختبر من خلالها جدية الدولة، وجدارة المشروع، ومتانة المعنى.
أولًا: الأمن – من الاحتواء الفوضوي إلى الضبط التشاركي
الأمن ليس قمعًا بل حماية، ولا يُقاس بعدد الدوريات بل بمستوى الثقة في الشارع.
ولأن سوريا شهدت تحطيمًا ممنهجًا للثقة، يبدأ الإصلاح من تحويل جهاز الأمن إلى بنية وطنية تشاركية، عبر:
- تشكيل جهاز أمني انتقالي مهني، يخضع لرقابة مدنية–عسكرية مزدوجة.
- اعتماد نموذج الأمن المجتمعي، بإشراك المجالس المحلية في ضبط النزاعات ومنع الفوضى.
- تجميد أجهزة الأمن السابقة وفتح ملفاتها ضمن إطار عدالة انتقالية واضحة.
- إقرار قانون يمنع الاعتقال السياسي والانتهاكات الانتقامية منذ اليوم الأول.
ثانيًا: الغذاء – من الهشاشة إلى الاستجابة السيادية
الجوع ليس مسألة إنسانية فقط، بل تحدٍّ سيادي مباشر. فالدولة التي لا تستطيع إطعام شعبها تفقد شرعيتها الأخلاقية من لحظة ولادتها.
وعليه، يتم تأمين الاستجابة عبر:
- خطة طوارئ غذائية بإشراف حكومي مباشر وتوزيع محلي عادل.
- إعادة تشغيل مطاحن ومخابز كبرى بإدارة مدنية محايدة.
- دعم الفلاحين الصغار وتأهيل الأراضي المهملة.
- إنشاء صندوق غذائي وطني بالشراكة مع الشتات والمبادرات الدولية.
ثالثًا: المؤسسات – من الفوضى إلى الثقة
ليست الأزمة السورية فقط أزمة غياب مؤسسات، بل أزمة فقدان الثقة بها.
لذا، فإن أولى خطوات الإصلاح تبدأ من إعادة تشغيل المرافق، لا إعادة إنتاج الهياكل السلطوية:
- لجان إشراف محلية مؤقتة تدير الخدمات بإشراف حكومي انتقالي.
- تجميد القوانين الاستثنائية المرتبطة بالتسلط والفساد.
- تفعيل مبادرة لاستعادة الكفاءات الإدارية المنفية.
- إشراك المجتمع المحلي في الرقابة على التوظيف والقرارات التنفيذية.
رابعًا: اختبار الشرعية التنفيذية – من الحضور إلى العقد
الشرعية لا تُعلن بل تُكسب.
وفي السنة الأولى، تُقاس الدولة من عين المواطن، عبر ثلاث مؤشرات:
هل يشعر بالأمان؟ هل يجد الخبز؟ هل تُعامله الدولة بكرامة؟
هذه الثلاثية هي المعيار، وهي البوصلة التي تُحدّد ما إذا كانت هذه الدولة جديرة بالثقة أم لا.
خاتمة الفصل
العام الأول ليس لحظة تفاخر، بل ساعة الحقيقة.
إما أن تُبنى فيه الدولة من الأرض إلى السماء، من رغيف الخبز إلى مؤسسة القانون، وإما أن يُفتح الباب مجددًا أمام عودة الفوضى أو انبعاث الاستبداد باسم الضرورة.
ففي هذا العام، لا تُقاس النوايا، بل يُقاس الفعل، ولا تُحتسب الرؤى، بل يُحتسب أثرها في حياة الناس.
ومن هنا، فإن النجاح في الأمن، والغذاء، والمؤسسات، لا يضمن فقط البقاء، بل يؤسس للعقد الوطني الجديد الذي يبدأ من الثقة، ويستمر بالكرامة، وينضج عبر المشاركة.