القسم الثاني عشر – الباب الثاني
الفصل العاشر العلاقة مع الصين
من التغلغل الاقتصادي إلى شراكة مشروطة
تمهيد:
لم تكن العلاقة السورية–الصينية خلال العقود الماضية علاقة استراتيجية متماسكة، بل بقيت هامشية وذات طابع تجاري محدود حتى لحظة اندلاع الأزمة السورية. ومع انزياح النظام السوري عن محور الغرب، ومع تعمّق العزلة الدولية، بدأت الصين تملأ الفراغ التدريجي من خلال أدوات ناعمة: مشاريع استثمار، حضور اقتصادي، دعم سياسي هادئ في مجلس الأمن.
لكنّ التوغّل الصيني في الاقتصاد السوري بعد عام 2015 لم يكن بريئًا أو عفويًا، بل اتخذ طابع التمدّد طويل الأمد عبر مشاريع مُصمّمة لحماية مصالح بكين في المنطقة أكثر من دعم التنمية السورية. وهو ما يستدعي، في مرحلة بناء الدولة الجديدة، إعادة هيكلة العلاقة مع الصين على أسس تحفظ السيادة وتربط الانفتاح الاقتصادي بشروط واضحة.
ويُعالَج هذا التحول من خلال ستة محاور رئيسية:
أولًا: من الحياد الصامت إلى النفوذ الاقتصادي – كيف تمددت الصين في سوريا
حرصت بكين على تجنّب الانخراط العسكري في الملف السوري، لكنها:
استخدمت الفيتو في مجلس الأمن لحماية النظام من بعض القرارات.
استثمرت في مسار “إعادة الإعمار” بوصفه مدخلًا للنفوذ الاستراتيجي.
دعمت قطاعات البنية التحتية والطاقة من خلال شركات مرتبطة بالدولة الصينية.
هذا التمدّد لم يكن موجّهًا لتنمية سوريا، بل لضمان حصة استراتيجية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”.
ثانيًا: ضبط التوسع الصيني ضمن حدود السيادة الاقتصادية
لا يمكن التعامل مع الصين بوصفها “مانحًا بلا شروط”، كما يوحي الخطاب التقليدي.
بل يجب أن تُعاد صياغة العلاقة معها ضمن الأُطر التالية:
تحديد سقف واضح لحجم الاستثمارات المرتبطة بعقود طويلة الأمد.
مراجعة كل العقود التي أُبرمت خلال الحقبة السابقة خارج إطار الشفافية.
اشتراط أي شراكة صينية بوجود رقابة وطنية على شروط التمويل، وأهداف المشروع، وجدوى الاستثمار.
ثالثًا: حماية السوق الوطني من الاحتكار الصيني غير المعلن
تحاول الشركات الصينية دخول الأسواق من خلال:
عقود غير تنافسية تُمنح بالتراضي.
إغراق السوق بمنتجات منخفضة الجودة.
توظيف محدود للعمالة المحلية.
في الدولة الجديدة:
تُحظر العقود الاحتكارية التي لا تراعي السيادة الاقتصادية.
تُفرض معايير نوعية صارمة على كل اتفاق استيراد أو شراكة صناعية.
يُشترط توظيف العمالة المحلية وتوريد المعرفة ضمن كل مشروع صيني.
رابعًا: بناء شراكة مشروطة لا تبعية اقتصادية
تُبنى العلاقة الاقتصادية مع الصين في إطار:
شراكة لا تقفز على القانون المحلي.
اتفاقيات تضمن تبادلًا متكافئًا، لا هيمنة لأحد الطرفين.
إدماج أي مشروع صيني ضمن الخطة الوطنية للنهضة الاقتصادية، لا خارجها.
الصين قوة صاعدة، لكن ذلك لا يعني قبول نفوذها دون شروط توازن السيادة مع الحاجة.
خامسًا: تحييد البُعد السياسي الصيني عن القرار السوري
رغم أن الصين لم تتدخل عسكريًا في سوريا، إلا أنها تسعى:
للحصول على موقع سياسي في عملية إعادة الإعمار.
للتأثير على السياسات الاقتصادية والتمويلية من خلال أدواتها الدولية.
لذلك، يجب:
فصل العلاقة الاقتصادية عن النفوذ السياسي.
رفض أي صيغة شراكة تُترجم إلى نفوذ على القرار السيادي.
إدارة العلاقة مع بكين من موقع الندية، لا بوصفها بديلاً عن الغرب أو عن روسيا.
سادسًا: استثمار التجربة الصينية التنموية دون استنساخ نموذجها السياسي
تُعد التجربة الصينية في النهوض الصناعي والتكنولوجي تجربة مهمة يُمكن الاستفادة منها في:
التخطيط الصناعي طويل الأمد.
بناء شبكات بنية تحتية وطنية.
تطوير المدن الذكية والخدمات الرقمية.
لكن في المقابل:
لا يُمكن استيراد النموذج السياسي القائم على الحزب الواحد أو الرقابة الشمولية.
بل يجب الفصل بوضوح بين التنمية بوصفها تقنية، والسياسة بوصفها خيارًا سياديًا ينبع من الإرادة الشعبية.
خاتمة الفصل:
ليست الصين عدوًا، لكنها ليست حليفًا بريئًا،
وليست بديلاً جاهزًا عن الغرب، ولا قناة مفتوحة دون مقابل.
بل هي قوة صاعدة تسعى لمصالحها، تمامًا كما يجب أن تفعل سوريا الجديدة.
وفي العلاقة مع بكين، لا مكان للانبهار، ولا مجال للتبعية،
بل يجب أن تُبنى على معادلة صريحة:
نحن نُرحب بالشراكة، لكن بشروطنا.
ونحترم القوة، لكن لا نخضع لها.
ونتعلم من التجارب، دون أن نتخلى عن هويتنا السياسية السيادية.