القسم الثاني عشر – الباب الثاني
الفصل الحادي عشر هندسة العلاقات السورية–الأوروبية
إعادة بناء الجسور وفق معايير السيادة والمصالح المشتركة
تمهيد
بين سوريا وأوروبا خيط طويل من التاريخ المشترك، يتراوح بين التلاقي والصدام، بين الاستعمار والدعم، بين الإهمال والاهتمام الحذر.
اليوم، في زمن النهضة السورية الجديدة، يصبح لزامًا أن تُعاد صياغة هذه العلاقة وفق منطق جديد:
منطق يحترم السيادة السورية، ويستثمر في المصالح المشتركة، ويحول الخلافات التاريخية إلى فرص تفاهم، دون سذاجة أو تبعية.
فأوروبا — المنقسمة بين مصالحها وهواجسها — يمكن أن تكون شريكًا هامًا لسوريا إذا أُحسن التعامل معها بعقلانية وبراغماتية نزيهة.
أولًا: خلفية العلاقة السورية–الأوروبية
الإرث الاستعماري والنفور التاريخي
لعبت فرنسا دورًا استعماريًا في سوريا عبر الانتداب، مما أورث الذاكرة الوطنية السورية نفورًا من الهيمنة الأوروبية.
بقيت الشكوك متبادلة رغم الاستقلال، وتعمقت مع الاصطفافات خلال الحرب الباردة.
مرحلة الانفتاح المحدود (2000–2010)
مع بداية الألفية، سعت بعض الدول الأوروبية (خاصة فرنسا وألمانيا وإيطاليا) إلى تطوير قنوات تواصل مع سوريا، خصوصًا في ملفات إقليمية (لبنان، العراق، القضية الفلسطينية).
القطيعة بعد 2011
وقفت معظم الحكومات الأوروبية ضد النظام السوري خلال الثورة السورية، ودعمت المعارضة سياسيًا، وإن كان هذا الدعم قد بقي مترددًا ومجزّأً.
فرضت عقوبات مشددة، وساهمت في عزلة سوريا دوليًا، مع تعاطف إنساني واسع مع اللاجئين، دون سياسة موحدة تجاه مستقبل سوريا.
ثانيًا: مرتكزات بناء العلاقة الجديدة
تحييد رواسب العداء القديم
التعامل مع الإرث الاستعماري كمسألة تاريخية لا يجب أن تظل عائقًا أمام مصالح الحاضر والمستقبل.
تجاوز الخطابات الانفعالية إلى براغماتية المصالح.
السيادة السورية كقاعدة أولى
التأكيد في كل العلاقات مع أوروبا على مبدأ احترام استقلال القرار الوطني السوري وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
منظور الشراكة لا الرعاية
سوريا لا تطلب “مساعدات مشروطة” بل تسعى إلى علاقات شراكة متكافئة، تتيح لكل طرف حماية مصالحه دون استغلال الطرف الآخر.
استثمار القواسم المشتركة
مكافحة الإرهاب، ضبط الهجرة غير الشرعية، إعادة الإعمار، تعزيز الاستقرار الإقليمي، ملفات تشكل مصالح مشتركة يمكن البناء عليها.
ثالثًا: استراتيجيات التعامل
التفريق بين أوروبا الرسمية وأوروبا الشعبية
عدم الاكتفاء بالتعامل مع الحكومات، بل فتح قنوات تواصل مع البرلمانات، البلديات، الجامعات، المنظمات غير الحكومية، والرأي العام الأوروبي.
إبراز الدور الحضاري لسوريا
تسويق سوريا الجديدة كقوة حضارية تساهم في الاستقرار والتنمية، وليس كمصدر أزمات أو تهديدات.
خطط دبلوماسية مخصصة لكل دولة
التعامل مع أوروبا كفسيفساء لا كمجموعة موحدة:
علاقة خاصة مع فرنسا بحكم التاريخ الثقافي والمصالح الإقليمية.
شراكات اقتصادية مع ألمانيا وإيطاليا.
قنوات تواصل مع دول الشمال الأوروبي في مجالات حقوق الإنسان والتنمية.
انفتاح مدروس مع أوروبا الشرقية الساعية لأدوار أكبر في السياسة الخارجية.
استخدام ملف اللاجئين بشكل إيجابي
بدلاً من الاكتفاء بطلب الدعم، تقديم رؤية شاملة لعودة اللاجئين، بما يكسب سوريا احترامًا ومصداقية في المحافل الأوروبية.
طرح مبادرات مشتركة
مبادرات ثقافية، علمية، إنسانية، وسياسية تعيد بناء الثقة وتكسر الحواجز النفسية.
رابعًا: التحديات وكيفية معالجتها
اللوبيات المعارضة
وجود جماعات ضغط مناوئة لسوريا الجديدة داخل بعض العواصم الأوروبية.
المعالجة عبر خطاب ذكي لا يستفز الخصوم بل يحاصر رواياتهم بالحقائق والمصداقية.
الإرث الإعلامي السلبي
الصورة المشوهة التي رسختها وسائل الإعلام خلال سنوات الحرب.
الحل عبر تأسيس مراكز إعلامية سورية في العواصم الأوروبية تنقل صورة واقعية وعادلة عن الوضع الجديد في سوريا.
الشكوك حول الإصلاح السياسي
قلق أوروبي مستمر من طبيعة الحكم في سوريا.
المعالجة عبر تقديم إصلاحات شفافة قابلة للرصد، وضمانات قانونية فعلية، والانخراط في حوارات حقوقية ذكية ومدروسة.
خامسًا: الرؤية النهائية للعلاقة السورية–الأوروبية
علاقة تقوم على تجاوز الماضي دون نسيانه، وبناء المستقبل دون استنساخ نماذج التبعية.
علاقة توازن بين احترام السيادة وتحقيق المصالح المشتركة.
علاقة تنظر إلى أوروبا لا كوصيّ، بل كشريك محتمل يحتاج إلى سوريا كما تحتاجه سوريا، ضمن نظام عالمي أكثر تعددية واستقلالًا.
خاتمة
أوروبا ليست كتلة صماء، ولا عدوًا دائمًا، ولا صديقًا مضمونًا.
هي ساحة معقدة من المصالح المتضاربة، والهواجس المتراكمة، والفرص الممكنة.
وسوريا الجديدة — دولة النهضة والسيادة — قادرة بعقل استراتيجي ورؤية حضارية على أن تبني مع أوروبا علاقات لا تلغي الاختلاف، لكنها تؤسس لجسور قادرة على حمل المستقبل.