القسم الرابع عشر – الباب الثالث
الفصل الحادي عشر التعديل الوقائي
الحماية من الانحرافات المبكرة
مقدمة الفصل
كل نظام سياسي، مهما كانت صلابته الدستورية، يبقى معرضًا لانحرافات ناعمة تبدأ من الهامش وتزحف نحو المركز، غالبًا في صمت، دون أن تُقرع الأجراس. ولهذا، لا يكفي أن يُبنى المشروع على النصوص الراسخة أو المبادئ السامية، بل لا بد من تفعيل آليات تعديل وقائي، تُرصد بها إشارات الانحراف قبل أن تتجذر، وتُفعل عبرها تدخلات سريعة قبل أن يصبح التعديل مستحيلًا أو مكلفًا على الاستقرار والشرعية.
في مشروع النهضة، لا يُنتظر السقوط لتُفكّك البنية، بل يُعمل على تحصين المسار من الداخل، عبر منظومة تعديل مرن واستباقي، يُدار بعقلية مسؤولة لا بردّات فعل متأخرة، تُمارس بجرأة لا بهواجس الانكار، وتُبنى على معلومات حقيقية لا على خطابيات التجميل.
أولًا: الفكرة الوقائية – التعديل كحصانة لا كضعف
الأنظمة التسلطية تخشى التعديل لأنه يُنظر إليه كمظهر ضعف، بينما الدولة السيادية تستبقه لأنه مظهر نضج وسيادة على الذات. ولهذا، تُبنى الفلسفة الوقائية على المبادئ التالية:
أن التعديل المبكر أقل كلفة من التصحيح القسري لاحقًا.
أن الاعتراف بالخلل ليس إعلان فشل، بل ممارسة مسؤولة للسيادة الأخلاقية.
أن الجمود هو أخطر شكل من أشكال الانحراف المؤسسي.
أن الدولة لا تحمي شرعيتها عبر الإنكار، بل عبر التصحيح الذاتي.
هذه المبادئ تُحوّل التعديل من استثناء إلى ممارسة صحية.
ثانيًا: آليات رصد الانحرافات المبكرة
لكي يُفعل التعديل الوقائي، لا بد من بنية إنذار مبكر تشمل:
لجان رقابة داخلية مستقلة تُعنى برصد مؤشرات عدم التوازن في أداء المؤسسات (مركزية مفرطة، تغييب للتشاور، تراكم الصلاحيات).
تحليل دوري للخطاب السياسي الرسمي، للكشف عن انزلاقات لغوية قد تعبّر عن ميول سلطوية أو تبريرية.
رصد التفاوت في العدالة المؤسسية بين المناطق والفئات، كأحد مؤشرات الانحراف في التوزيع السيادي.
مراقبة التغييرات المتكررة في السياسات دون مراجعة علنية، باعتبارها علامة على اضطراب القرار أو غياب البوصلة.
إن هذه الآليات ليست اتهامية، بل استقصائية، هدفها الاستدراك لا التجريم.
ثالثًا: متى يبدأ التعديل الوقائي؟ – التوقيت كأداة للحماية
لا يُنتظر الانهيار ليبدأ التعديل، بل يُربط بتوقيتات دورية وأخرى ظرفية:
كل ثلاث سنوات تُفعّل مراجعة مؤسساتية داخلية شاملة لكل وزارة وهيئة عليا، مع صلاحيات لإعادة هيكلتها أو تعديل أولوياتها.
تُفعّل المراجعة الوقائية تلقائيًا عند تكرار مؤشرات خلل محددة (ثلاث استقالات عليا متتالية، تراجع حاد في مؤشرات رضا الجمهور، تأخّر مزمن في تنفيذ البرامج).
يُعطى المجتمع المدني والمؤسسات البحثية حق اقتراح تعديلات وقائية عند رصدهم لاختلالات بنيوية موثقة.
يُعتمد مبدأ “الخطأ الصغير القابل للإصلاح” بدل الانتظار لحظة الانفجار الكبير.
هذا التوقيت المرن يُفعّل ثقافة التدخل المبكر كمنهج، لا كاستثناء.
رابعًا: من التعديل العمودي إلى التعديل الأفقي
التعديل الوقائي لا يعني فقط تغيير الشخصيات في المناصب العليا، بل يتطلب مراجعة للممارسات، والبُنى، وأنماط التفكير الإداري والسياسي. ويشمل ذلك:
تفكيك التكرار البيروقراطي داخل المؤسسات لتقليل فرص التنازع والشلل.
مراجعة معايير التعيين والترفيع لمنع بناء حلقات ولاء تعيد إنتاج الخلل.
مراقبة آليات اتخاذ القرار الجماعي لضمان ألا تتحول القيادة إلى مركز ضاغط يُقصي الآراء المخالفة.
إعادة هيكلة أي جهة تتضخم وظيفيًا دون عائد حقيقي، أو تتراكم فيها الصلاحيات دون توازن رقابي.
التعديل الأفقي هنا أكثر فعالية، لأنه يُصلح العقل المؤسسي لا فقط واجهته.
خامسًا: التعديل الوقائي والمناعة السياسية
تُبنى الدولة القوية لا بمنع الخطأ، بل بقدرتها على تصحيحه قبل أن يتحوّل إلى استبداد أو شلل. ولهذا، يصبح التعديل الوقائي:
أداة لحماية الشرعية من التآكل.
وسيلة لبناء ثقة الناس في صدق الدولة مع نفسها.
مرآة تؤكد للمجتمع أن النقد لا يُخيف القيادة، بل يُنير طريقها.
حاجزًا يحول دون تحوّل الأخطاء إلى عرف، والقصور إلى قاعدة.
بهذه الطريقة، تتحوّل الدولة إلى كيان يقبل مراجعة ذاته، ويُنتج قراراته بروح يقظة، لا بجمود متعالٍ.
خاتمة الفصل
التعديل الوقائي هو علامة على دولة لا تخشى السؤال، بل تطلبه، ولا تنتظر انهيارًا لتتحرك، بل تُسائل ذاتها وهي في قمة أدائها.
إنه تجسيد حقيقي لفلسفة المشروع النهضوي: أن الدولة ليست بنية مغلقة بل كائن سيادي حي، يتنفس، يُراجع، يُصحّح، ويتطور.
وبقدر ما يكون التعديل استباقيًا، بقدر ما يبقى المشروع في مأمن من التحلل الهادئ والانزلاقات غير المرئية، التي كثيرًا ما بدأت من صمت، وانتهت باستبداد.