القسم الثاني عشر – الباب الثاني
الفصل الثاني عشر هندسة العلاقات السورية الأممية
من العضوية الشكلية إلى الشراكة الفاعلة
مدخل تأسيسي
لم تكن العلاقة بين الدولة السورية ومنظومة الأمم المتحدة ومنظماتها المتفرعة علاقة شراكة حقيقية في العقود الماضية، بل اقتصرت في معظمها على حضور شكلي، أو استثمار انتقائي لأجهزة الأمم المتحدة بما يخدم مصالح النظام الحاكم، دون التزام فعلي بروح الميثاق الأممي أو القيم العالمية التي تمثلها هذه المنظومة.
وفي مرحلة ما بعد الاستبداد، لا بد من إعادة تأسيس العلاقة مع الأمم المتحدة ومؤسساتها من منظور جديد، يستند إلى مبدأ السيادة الحقيقية والانخراط الإيجابي، ويهدف إلى تحويل سوريا من كيان “مُراقَب عليه” إلى كيان “مشارك وفاعل ومبادر” في النظام الدولي متعدد الأطراف.
أولًا: إعادة تعريف موقع سوريا في منظومة الأمم المتحدة
يجب أن تنطلق السياسة السورية الجديدة من تصور واضح لوظيفة الأمم المتحدة، يتجاوز المظلومية التاريخية ويعتمد على:
اعتبار سوريا شريكًا ملتزمًا بميثاق الأمم المتحدة وقيمه، لا خصمًا أو ضحية دائمة.
الانتقال من عقلية الدفاع والاتهام إلى عقلية المبادرة والإسهام في صناعة القرارات.
استثمار عضوية سوريا في الجمعيات والهيئات والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة كأداة لتعزيز الحضور الدولي والدبلوماسية الوقائية.
ثانيًا: أولويات العلاقة مع الأمم المتحدة بعد الاستبداد
ملف العدالة الانتقالية والمحاسبة:
المطالبة العلنية بفتح جميع الملفات المتعلقة بجرائم الحرب والانتهاكات بحق السوريين، بما فيها تلك المرتكبة من قبل النظام السابق، ومن قبل قوى الاحتلال والميليشيات الطائفية العابرة للحدود.
التعاون مع مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، ودعم لجان التحقيق الأممية والمبادرات الحقوقية الدولية.
تشكيل لجنة وطنية للعدالة الانتقالية تعمل بشراكة فنية واستشارية مع الأمم المتحدة دون الإخلال بالسيادة القضائية.
ملف اللاجئين والمهجّرين:
فتح حوار استراتيجي مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين حول آليات العودة الطوعية الآمنة والكريمة، وتفكيك العقبات القانونية والأمنية والاقتصادية التي تعرقل العودة.
تحويل ملف اللاجئين من ورقة ضغط إقليمية إلى مشروع إعادة اندماج دولي منظم تشارك فيه وكالات الأمم المتحدة بفعالية وبشروط تحترم كرامة السوريين.
إعادة الإعمار والتنمية:
تفعيل العلاقة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ومنظمة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) لوضع خطط إعادة الإعمار وفق معايير الشفافية والعدالة والتوزيع العادل للمشاريع.
الاستفادة من برامج الأمم المتحدة في دعم البنية التحتية، الحوكمة، التنمية المحلية، والزراعة.
التمثيل المتوازن في الهيئات الدولية:
إعادة تأهيل الدبلوماسية السورية للترشح لعضوية اللجان الأممية المهمة، بما في ذلك لجنة نزع السلاح، لجنة وضع المرأة، مجلس حقوق الإنسان، ومجالس الوكالات التخصصية.
تفعيل الدور السوري في الجمعية العامة للأمم المتحدة عبر تقديم مشاريع قرارات تعبّر عن المصلحة الوطنية والعدالة الإقليمية.
مكافحة الإرهاب وفق إطار قانوني دولي:
التفاعل مع لجنة مكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة، والتعاون في صياغة معايير جديدة تتفادى الاستخدام الانتقائي للمصطلح.
إدماج مقاربة وطنية شاملة لمكافحة الإرهاب، تقوم على تجفيف منابعه الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، لا الاقتصار على البعد الأمني.
ثالثًا: إصلاح العلاقة مع المنظمات الأممية المتخصصة
اليونسكو: إعادة إدماج سوريا في مشاريع التعليم والثقافة وحماية التراث، خصوصًا بعد الدمار الهائل الذي تعرضت له المدن الأثرية.
منظمة الصحة العالمية (WHO): إعادة تفعيل شراكات الصحة العامة، وتطوير النظام الصحي وفقًا للمعايير الدولية.
منظمة الأغذية والزراعة (FAO): تنشيط التعاون الزراعي والتنمية الريفية، خصوصًا في المناطق المنكوبة.
اليونيسيف: شراكة استراتيجية لحماية الطفل السوري من آثار الحرب، الفقر، الانقطاع عن التعليم، وعمالة الأطفال.
رابعًا: التعامل مع عوائق وإرث الماضي
استعادة الثقة الدولية: عبر تصحيح الصورة السلبية التي خلفها النظام السابق، وذلك بمراكمة أداء مسؤول وشفاف في كل الملفات الأممية.
التمييز بين الشعب والنظام: التأكيد في كل المحافل أن الدولة الجديدة تمثل الشعب السوري لا النظام الساقط، وأنها تفتح صفحة جديدة من العلاقات الدولية.
إغلاق ملفات التسييس والتلاعب: مراجعة كل حالات تسييس العلاقة مع الأمم المتحدة التي استخدمها النظام لتخويف الداخل أو مهاجمة الخارج.
خامسًا: نحو دبلوماسية أممية مبادرة
إطلاق “مبادرة سورية دولية” لتعزيز دور الأمم المتحدة في حماية شعوب المنطقة من الاستبداد والاحتلال، انطلاقًا من التجربة السورية.
عرض خبرة العدالة الانتقالية السورية كنموذج للأمم المتحدة في حالات النزاع المشابهة.
المساهمة الفاعلة في مراجعة دور الأمم المتحدة في سوريا سابقًا، وتقديم تصور إصلاحي واضح لتفادي تكرار أخطاء “الحياد السلبي”.
خاتمة
إن إعادة هندسة العلاقة مع منظومة الأمم المتحدة لا يجب أن تكون رد فعل على أخطاء الماضي، بل فعلًا سياديًا متقدمًا يؤكد أن سوريا الجديدة ليست ضحية دائمة ولا دولة وظيفية، بل شريك كامل العضوية في المنظومة الدولية.
وأن انخراطها ليس مجرد استحقاق رمزي، بل هو تعبير عن نضوج دولتها ومؤسساتها، وعن إرادتها بأن تكون جزءًا من العالم لا مجرد ساحة فيه.