web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الرابع

الفصل الثالث عشر المنصات الحوارية الدائمة

من التفاعل الرمزي إلى المأسسة الوطنية

مقدمة الفصل

في سوريا، لطالما اعتُبر الحوار ترفًا يمكن أن تمنحه السلطة متى شاءت، وتمنعه متى خافت. وكانت اللقاءات الرسمية، حين تُعقد، مناسبات استعراضية لا منصات تبادلية، حيث تُفرض النتائج قبل أن يبدأ النقاش، وتُحدد المسارات قبل أن يُطرح السؤال.

أما في مشروع النهضة، فإن الحوار لا يُعامل كأداة لاحتواء الأزمة، بل كبنية دائمة لتفاديها. فهو لا يُفعل فقط حين تتصاعد التوترات، بل يُدمَج في بنية الحكم كمكوّن مؤسسي ثابت، ينتج السياسات لا فقط يراجعها، ويؤسس للقرار لا فقط يتفاعل معه.

المنصات الحوارية هنا ليست مجرّد دوائر نقاشية رمزية، بل مجالس تداول وطني مستمرة، تُمنهج الاختلاف، وتحوّل التعدد في الرؤى إلى مصدر قوة وسيادة مشتركة، بدل أن يتحول إلى تصدّع أو صراع.

أولًا: من اللقاءات الموسمية إلى الحوار المؤسسي

الفرق الجوهري بين المنصات التي يقترحها هذا الفصل وبين ما عُرف سابقًا في التجربة السورية، هو أن:

المنصات هنا دائمة، لا ظرفية، تُعقد بجدول زمني محدد، بغض النظر عن الاستقرار أو الأزمة.

تُنشأ بقانون، وتُحمى دستوريًا من الحل أو التقييد، فلا تكون مرهونة بمزاج السلطة أو ضغط الشارع.

تُدار عبر هيئة مستقلة عن السلطة التنفيذية، وتخضع فقط لمجلس النهضة الوطني أو لهيئة التداول السيادي العليا.

تُبنى على قاعدة الشراكة في القرار، لا على قاعدة الاستماع الشكلي لملاحظات غير ملزمة.

بهذا، تُنتج سوريا لأول مرة منذ عقود مؤسسة حوار وطني مستدام، لا مسرحية سياسية موسمية.

ثانيًا: تركيبة المنصات – تمثيل حقيقي لا احتكار نخبوي

لكي تكون هذه المنصات تعبّر فعلًا عن المجتمع، لا بد أن تُمثّل:

السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية) من موقع المساهم لا المسيطر.

الإدارات المحلية من كل محافظة، عبر ممثلين منتخبين لا معينين.

النقابات المهنية، والجامعات، والاتحادات الطلابية، والجمعيات الأهلية.

القيادات المجتمعية، والشخصيات الفكرية المستقلة، وممثلي المناطق الأكثر تهميشًا.

الأقليات القومية والدينية والطائفية، لضمان أن تُسمع أصوات الهويات الهشة داخل الحيز الوطني العام.

ويُراعى في التركيبة ألا تتحول هذه المنصات إلى واجهات سياسية، بل أن تكون مرايا اجتماعية تمثل التنوع السوري بكل مستوياته.

ثالثًا: وظائف المنصات – من التفاعل إلى إنتاج القرار

لا تقتصر وظيفة المنصات على النقاش العام، بل تشمل:

تقييم السياسات القائمة ومدى توافقها مع احتياجات المجتمع المحلي والوطني.

اقتراح تعديلات أو سياسات بديلة تُرفع مباشرة إلى مجلس السياسات الوطني أو البرلمان.

استضافة المسؤولين الحكوميين ومساءلتهم علنًا أمام المجتمع المدني.

صياغة توصيات استراتيجية في ملفات محورية (مثل العدالة الانتقالية، التنمية المتوازنة، تمثيل المناطق المهمشة، الحقوق الثقافية، الخ).

إنتاج أوراق سياسات تشاركية تُبنى على نقاش مجتمعي منظم لا فردي.

هنا لا يعود الحوار مجرد ممارسة رمزية، بل جزءًا من صناعة القرار الوطني.

رابعًا: أدوات التفعيل والمتابعة

لضمان أن لا تبقى مخرجات هذه المنصات حبراً على ورق، يتم ربطها بمنظومة تنفيذية فعلية، عبر:

إنشاء وحدة متابعة تنفيذية ضمن كل وزارة معنية، مكلفة بالتجاوب مع توصيات المنصات.

إلزام السلطات بعرض مبررات واضحة أمام المنصات إذا تم تجاهل أي توصية منها.

نشر تقارير دورية توضح ما تحقق وما لم يتحقق من توصيات المنصات، مع الأسباب والبدائل.

توفير التمويل المؤسسي للمنصات من موازنة الدولة، واستقلالها المالي لضمان عدم ابتزازها.

وبهذا، تُحول المنصات من ساحة تفريغ إلى حلقة تأثير.

خامسًا: البعد التصالحي – الحوار كأداة لتضميد الانقسام

في بلد خرج من حرب أهلية مُقنّعة، لا يمكن بناء مشروع وطني دون منصات تُعيد اللقاء بين أطراف لم يتحدثوا يومًا دون سلاح أو إقصاء. ولذلك، تتحول المنصات إلى:

مساحة اعتراف متبادل، وتجاوز للسرديات المطلقة.

آلية سياسية لتخفيف الاحتقان الطائفي والمناطقي عبر التفاعل المنظَّم.

أداة احتضان للآراء المتضاربة ضمن منطق التداول لا التخوين.

جسر بين الدولة المركزية والمجتمع المحلي، وبين الذاكرة الجريحة والطموح المشترك.

وهكذا، يتحول الحوار من مطلب سياسي إلى آلية شفاء وطني.

خاتمة الفصل

المنصات الحوارية الدائمة ليست ديكورًا ديمقراطيًا، بل ضرورة وطنية لبقاء الدولة السورية الجديدة حيّة ومرنة وتشاركية.
إنها الجواب الحضاري على سؤال “من يُراجع من؟”، وهي الردّ العملي على تاريخ طويل من الإقصاء والاستفراد والانغلاق.
وبقدر ما تتجذّر هذه المنصات في البنية الدستورية، بقدر ما ننتقل من مشروع حكم إلى مشروع سيادة شعبية متجددة، لا تخشى النقاش، ولا تهرب من الاختلاف، بل تحتضنه وتُحوله إلى قوة إصلاح ذاتي دائمة.