web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الثالث

الفصل السادس عشر التنسيق بين المجالس المحلية والمؤسسات المركزية

من التنازع إلى التشاركية الإدارية

مقدمة تمهيدية

في دولة مأزومة مثل سوريا، غالبًا ما يكون الانقسام الإداري مرآة للانقسام السياسي، وتتحول العلاقة بين المركز والأطراف إلى صراع نفوذ، لا شراكة خدمة.

وقد شهدت البلاد، خلال العقود الأخيرة، تدهورًا حادًا في العلاقة بين الإدارة المحلية والسلطة المركزية، حيث تم تجريد المجالس المحلية من أي سلطة حقيقية، وتحويلها إلى واجهات خاضعة للتعيين الأمني، فيما احتكر المركز — ممثلًا بالسلطة التنفيذية – كل الصلاحيات، والخطط، والموارد.

ومع اندلاع الحرب، تكرّس هذا الانقسام عبر انبثاق سلطات محلية منفصلة، بعضها مستقل، وبعضها متكئ على قوى الأمر الواقع، ما أدى إلى تشظٍ إداري خطير، وفوضى في الخدمات، وغياب أي تنسيق وطني فعّال.

في مشروع النهضة، لا يُنظر إلى المجالس المحلية كمجرد أجهزة بلدية، بل كجزء عضوي من النظام السيادي الشامل، وكجناح ميداني للإدارة السياسية–الخدمية للدولة.

ولهذا، يُعاد بناء العلاقة بين المجالس والمؤسسات المركزية على أساس التشاركية، التوازن، توزيع الصلاحيات، والمسؤولية المشتركة في إدارة الشأن العام.

أولًا: تشريح الانقسام الإداري السوري

احتكار المركز للسلطة والقرار:

تقنين الصلاحيات المحلية ضمن قوانين شكلية، مع تدخلات دائمة من الأجهزة الأمنية والوزارات المركزية.

ضعف البنية المؤسسية والإدارية للمجالس المحلية:

نقص الكوادر، التهميش المالي، غياب الخطط التنموية، وغياب أدوات المراقبة والتقييم.

فوضى التمثيل والانقسام السياسي:

وجود كيانات محلية متصارعة، بعضها يدّعي الشرعية الثورية، وبعضها خاضع للنفوذ الخارجي، وبعضها مجرد إدارة محلية معزولة.

غياب المعايير المهنية والوطنية:

تولي المهام على أساس الولاء أو القوة المسلحة، لا الكفاءة أو الانتخاب الحر.

تصادم السياسات بين المركز والميدان:

خطط وزارية مركزية لا تتوافق مع واقع المدن والبلدات، وقرارات محلية لا تجد غطاء قانونيًا أو دعمًا مؤسساتيًا.

ثانيًا: أهداف هذه السياسة في مشروع النهضة

تثبيت مبدأ “الوحدة الإدارية ضمن التعدد الوظيفي:

أي أن كل وحدة محلية لها صلاحياتها، لكن ضمن إطار سيادي موحد.

إعادة تعريف العلاقة بين المركز والمجالس على قاعدة التوزيع التشاركي للسلطة.

بناء شراكة دائمة قائمة على التخطيط المشترك، والتمويل التكاملي، والتنفيذ المحلي.

تحويل المجالس المحلية إلى مجالس حكم فعلي ضمن وحدة الدولة، لا أدوات تنفذ ما يُملى عليها.

ضمان آليات المحاسبة المزدوجة: المركز يراقب، والمحلي يُحاسب محليًا من قبل المواطنين.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إصدار “قانون اللامركزية الإدارية التشاركية

يضمن صلاحيات واضحة للمجالس المحلية في قطاعات مثل التعليم، الصحة، النقل، التخطيط الحضري، مع رقابة مركزية منسقة، لا استبدادية.

إنشاء “المجلس الوطني لتنسيق الحكم المحلي

هيئة تمثيلية تضم ممثلين منتخبين من المجالس المحلية، ومسؤولين مركزيين، تجتمع دوريًا لصياغة السياسات العامة المشتركة ومراجعتها.

إقرار “نظام الميزانيات التكميلية اللامركزية

يسمح للمجالس بإعداد موازناتها وفق احتياجاتها، ضمن معايير وطنية للعدالة والتوزيع، مع تحويلات من المركز بناءً على خطط واضحة.

برنامج لتأهيل الكوادر الإدارية المحلية

تدريب موظفين محليين على التخطيط، إدارة الموارد، التعاقد، الشفافية، والحوسبة، بدعم من الجامعات والمؤسسات الوطنية.

آليات رقابة ثنائية المستوى

لجان رقابة محلية منتخبة، وأجهزة رقابة مركزية مستقلة، تعمل وفق معايير النزاهة والمحاسبة المالية والإدارية.

حوكمة رقمية مشتركة

تطوير منصة إلكترونية موحدة تربط المجالس بالمركز، تتيح مشاركة البيانات، تسريع الإجراءات، وتحسين الشفافية والتخطيط.

رابعًا: التحديات السياسية والإدارية

ممانعة المركز للتفويض الحقيقي خوفًا من فقدان الهيمنة.

ضعف البنية المؤسسية لبعض المجالس بفعل النزاعات والانقسام.

تداخل النفوذ العسكري والفصائلي مع العمل الإداري في بعض المناطق.

غياب الثقة المتبادلة بين المواطنين والإدارة المحلية بسبب التسييس أو الفساد.

ولهذا لا بد من إصلاح ثقافي–إداري شامل يرافق التشريعات، ويعيد بناء العقل المؤسسي والولاء الوطني.

خامسًا: التشاركية بوصفها فلسفة حكم لا مجرد ترتيب وظيفي

في مشروع النهضة، لا يُعاد توزيع الصلاحيات على أساس المجاملة أو التوازنات، بل لأن التمثيل المحلي هو حجر الزاوية في السيادة الداخلية.

الدولة لا يمكن أن تُدار من العاصمة وحدها، بل من المدن، والبلدات، والقرى، بعيون أهلها، وبصوتهم، وضمن وحدة قانونية وسياسية لا تنفصم.

خاتمة الفصل

ما بين المركز والطرف، لا يجب أن تقوم جبهة صراع، بل جسر سيادة.
والمجالس المحلية ليست كائنات مستقلة ولا تابعة، بل هي أذرع الوطن في الجغرافيا.

وفي سوريا الجديدة، لا بد من كسر المركزية المريضة دون تفكك، وبناء إدارة تشاركية تعترف بأن السلطة ليست احتكارًا، بل مسؤولية موزعة، ومشتركة، ومحاسَبة.