القسم التاسع – الباب الخامس
الفصل الثامن عشر التحول الرقمي والسيادة المعلوماتية
من العزلة التقنية إلى البنية الذكية
مقدمة تأسيسية: المعرفة قوة، ومن لا يملكها… لا يحكم
في عصر ما بعد الحداثة، لم تعد القوة تقتصر على من يملك الأرض أو السلاح، بل أصبحت المعرفة والبيانات والتكنولوجيا هي المجال الحقيقي للصراع والتفوّق والسيطرة.
فمن لا يُنتج المعرفة،
ولا يُخزّن بياناته،
ولا يُؤمّن معلوماته،
ولا يُطوّر أدواته،
ولا يملك قراره الرقمي،
فهو دولة مستعمَرة رقميًا، مهما رفعت من شعارات السيادة.
في سوريا، لم يكن الفشل الرقمي نتيجة ضعف الموارد، بل نتاج مباشر لسياسات التجهيل، والرقابة، والعزلة، والفساد، والعداء البنيوي للتطور.
– تم تحجيم الإنترنت وتسييسه،
– عُرقلت أي محاولة للحوكمة الرقمية،
– واحتُكرت شركات الاتصالات لصالح منظومة المخابرات،
– وتحوّل الوصول إلى المعلومة إلى تهمة،
– وسُحقت محاولات الابتكار داخل الجامعة،
– وتمّ تجاهل التحول الرقمي في القضاء، والتعليم، والاقتصاد، والصحة، والخدمات العامة.
ومع تصاعد الثورة، والانفجار الأمني، والعزلة الدولية، تفاقم الانهيار الرقمي:
– تقطّعت شبكات الدولة،
– وهُجّر العقل التكنولوجي السوري،
– وفُتح الباب واسعًا أمام التدخل الخارجي في البيانات السيادية،
– وسقط مفهوم “الأمن المعلوماتي” بالكامل.
في مشروع النهضة، لا نطرح التحول الرقمي بوصفه رفاهًا أو تحسينًا،
بل نؤسسه كشرط وجود، ورافعة تنموية، وحصن سيادي، ومعمار جديد للعلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الدولة وبياناتها
أولًا: تشريح العزلة الرقمية في التجربة السورية
- الفقر البنيوي في البنية التحتية
– شبكات الإنترنت ضعيفة،
– تقنيات الدولة متأخرة،
– لا مراكز بيانات وطنية،
– لا أمن معلوماتي سيادي،
– و90% من الخدمات العامة غير رقمية.
2.تسييس الفضاء الرقمي
– مراقبة الإنترنت كانت سياسة رسمية،
– حُجبت آلاف المواقع،
– وتحوّل الفضاء الإلكتروني إلى أداة قمع، لا وسيلة معرفة أو تواصل.
3.غياب تشريعات الحوكمة الرقمية
– لا قانون متكامل لحماية البيانات الشخصية،
– ولا قوانين تحمي الملكية الفكرية الرقمية،
– ولا آليات لتدقيق تقني أو رقابة على شركات التكنولوجيا،
– والقطاع الخاص يُترك بلا تنظيم، أو يُخنق لأسباب أمنية.
- فقدان الثقة المجتمعية
– المواطن لا يثق بأي منصة إلكترونية رسمية،
– ولا يعتبر الخدمات الرقمية وسيلة حقيقية للوصول إلى حقه،
– لأن النظام استعمل التقنية كوسيلة رقابة، لا تسهيل.
ثانيًا: فلسفة التحول الرقمي في مشروع النهضة – من التقنية إلى السيادة
- التحول الرقمي حق سيادي لا مجرد تحديث
الرقمنة ليست قرارًا إداريًا، بل موقع استراتيجي من مواقع القرار الوطني،
– تحكمه الرؤية،
– ويُربط بالعدالة،
– ويُخضع لمبدأ الشفافية،
– ويُعتبر أداة لتقليص الفساد، وتمكين المواطن، ورفع كفاءة الدولة.
- السيادة المعلوماتية شرط للكرامة الوطنية
لا تُترك بيانات المواطنين خارج رقابة وطنية صارمة،
ولا تُعطى سيطرة الإنترنت أو السجلات الحكومية لأي جهة خارجية،
ولا يُدار قطاع الاتصالات بوصفه ميدانًا للربح الأمني، بل كأداة سيادية بامتياز.
- التكنولوجيا لخدمة الإنسان لا ضبطه
يُعاد توجيه الفضاء الرقمي ليكون:
– منصة معرفة،
– أداة مشاركة،
– قناة مساءلة،
– ومساحة ابتكار،
لا كما كان:
– أداة مراقبة،
– وآلية تجريم،
– وأداة خنق.
- اللامركزية الرقمية
تُمنح البلديات والمجالس المحلية القدرة على تطوير أنظمة إلكترونية محلية مرتبطة بمنصات الدولة المركزية،
ضمن حوكمة منفتحة وتدقيق مستقل.
ثالثًا: السياسات التنفيذية للتحول الرقمي السيادي
- تأسيس “الهيئة الوطنية للتحول الرقمي والسيادة المعلوماتية“
هيئة مستقلة دستوريًا
صلاحياتها تشمل:
رسم الاستراتيجية الرقمية الوطنية
حماية البنية المعلوماتية السيادية
مراقبة أداء القطاع العام
تنظيم العلاقة مع شركات التكنولوجيا
تطوير القدرات البشرية الرقمية في جميع الوزارات
- إطلاق “المنصة الوطنية الموحدة للخدمات العامة“
منصة شاملة تشمل:
السجل المدني
القضاء
التعليم
الصحة
الترخيص
الشكاوى
المالية
ترتبط مباشرة بالحكومة والمجالس المحلية
تُبنى وفق معايير الشفافية والخصوصية وحماية البيانات
- إصدار قانون “حماية البيانات والحقوق الرقمية“
يُلزم الدولة بعدم مشاركة بيانات المواطنين إلا بإذن قضائي
يُعطي المواطن الحق بالوصول إلى بياناته وتعديلها
يُجرّم الاستخدام الأمني للبيانات
يُقرّ حق الخصوصية الرقمية كحق أساسي
- دعم التعليم الرقمي والبحث التكنولوجي
إدراج علوم البرمجة والذكاء الصناعي منذ التعليم الأساسي
إنشاء صناديق تمويل للابتكار التكنولوجي
دعم حاضنات أعمال رقمية محلية
تشجيع البحث الجامعي المرتبط بواقع المجتمع واحتياجاته التنموية
- تأميم سيادي للاتصالات والبنية التحتية الرقمية
فصل قطاع الاتصالات عن الأجهزة الأمنية
تأسيس شركة وطنية مستقلة للاتصالات والمعلوماتية
بناء مراكز بيانات وطنية مؤمنة
حظر تشغيل أي شبكة تعتمد على سيرفرات أجنبية خارج الرقابة الوطنية
خاتمة الفصل
في سوريا الجديدة، لا نُسلّم عقلنا الجمعي لشركات أجنبية،
ولا نُفرّط ببياناتنا لمن يدفع أكثر،
ولا نُقيم حوكمة بلا حماية،
ولا نُراقب المواطن لأنه يفكر.
بل نعيد بناء العلاقة مع المعرفة،
ومع التقنية،
ومع الفضاء الرقمي،
بوصفه امتدادًا للسيادة، ومساحة للحرية، وأداة لإطلاق نهضة جديدة لا يمكن أن تُولد إلا من عقل حر، ومعلومة مأمونة، وتقنية مُحررة من الخوف.