القسم الثاني عشر – الباب الخامس
الفصل الثالث والعشرون الوجود العسكري الأجنبي
من الاحتلال إلى التحييد
تمهيد:
ربما لم تعرف سوريا منذ استقلالها حجمًا من الوجود العسكري الأجنبي على أراضيها كما عرفته بعد عام 2011.
ففي لحظة واحدة، وجدت البلاد نفسها ميدنًا مفتوحًا لتدخّل جيوش وأجهزة وميليشيات من أطراف متعددة، حتى أصبحت السيادة الجغرافية شبه منعدمة، وتحوّلت الخارطة السورية إلى لوحة موزعة بين قواعد روسية، وأرتال أمريكية، ومناطق تركية، وتموضع إيراني عسكري–عقائدي، وميليشيات محلية–أجنبية تعمل خارج مؤسسات الدولة.
وقد ساهم النظام السابق في شرعنة هذا الواقع عبر استدعاءات رسمية لبعض هذه القوات، وعجز عن صدّ بعضها الآخر، فحوّل الوجود العسكري الأجنبي إلى جزء من بنية الحكم، لا تهديدًا يُعالج. فيما تعاملت قوى المعارضة وبعض الفصائل المسلحة مع التدخل الأجنبي إما كوسيلة حماية، أو كبديل عن بناء مشروع وطني مستقل.
أما في الدولة السورية الجديدة، فإن الوجود العسكري الأجنبي يُعرَّف بوصفه شكلًا من أشكال الاحتلال غير المشروع، وإن تعددت أنواعه. ولا يُمكن بناء سيادة مستقلة دون تفكيك هذا الوجود، أو تحييده على مراحل مدروسة.
ويُقدّم هذا الفصل قراءة توثيقية تحليلية للوجود العسكري الأجنبي، وتقسيمه إلى أنماط، وتحديد أهدافه ومخاطره، ثم طرح رؤية سيادية–قانونية–سياسية لتفكيكه أو تحييده.
أولًا: خريطة الوجود العسكري الأجنبي داخل سوريا
الولايات المتحدة الأمريكية
المواقع: شمال شرق سوريا (الحسكة، دير الزور، الرميلان، التنف).
الوظيفة المعلنة: محاربة داعش، دعم “قوات سوريا الديمقراطية”.
الوظيفة الواقعية: تحجيم النفوذ الإيراني، السيطرة على الثروات النفطية، تثبيت الحضور الاستراتيجي شرق الفرات.
روسيا الاتحادية
المواقع: قاعدتا حميميم (اللاذقية) وطرطوس البحرية، وعدة مواقع في دمشق وحمص.
الوظيفة المعلنة: دعم الدولة السورية ومكافحة الإرهاب.
الوظيفة الواقعية: حماية النظام، فرض نفوذ استراتيجي في شرق المتوسط، عقود طويلة الأجل في المرافئ والطاقة.
تركيا
المواقع: شمال وشمال غرب سوريا (عفرين، الباب، تل أبيض، رأس العين، إدلب).
الوظيفة المعلنة: محاربة التهديد الكردي وضبط الأمن الحدودي.
الوظيفة الواقعية: اقتطاع نفوذ، إنشاء إدارة موازية، تغيير ديموغرافي، توظيف الفصائل السورية.
إيران والميليشيات التابعة لها
المواقع: جنوب دمشق، دير الزور، البوكمال، ريف حلب، محيط “السيدة زينب”، تدمر.
الوظيفة المعلنة: الدفاع عن المقدسات، دعم “محور المقاومة”.
الوظيفة الواقعية: التغلغل العقائدي–العسكري، بناء قواعد شبه دائمة، خلق شبكة أمنية بديلة.
قوات أجنبية أخرى
مثل: “حزب الله”، مجموعات أفغانية، باكستانية، شيشانية، شركات أمن روسية (فاغنر).
تُستخدم كأذرع غير رسمية لتثبيت الاحتلال أو دعم طرف ضد آخر.
ثانيًا: تصنيف أنماط الوجود العسكري من حيث الشرعية والسيادة
الاحتلالات المباشرة: القوات التركية والأمريكية والإسرائيلية (في الجولان)
وجود غير مشروع وفق القانون الدولي، دون دعوة من سلطة شرعية معترف بها.
يخرق ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف.
الوجود الداعم للسلطة السابقة: روسيا، إيران
رغم الاستدعاء الرسمي، إلا أن شرعية الدعوة منهارة بسقوط شرعية النظام السابق.
وجود مشروط بخروج السياق الأمني، ويصبح استمرارُه خرقًا لسيادة الدولة الجديدة.
الميليشيات غير النظامية:
تُعتبر قوة احتلال موازية، لا تخضع للقانون الدولي أو الوطني.
تُستخدم كأداة ضغط، أو لإنتاج سلطات محلية مسلحة خارج الدولة.
ثالثًا: تحليل المخاطر الاستراتيجية لاستمرار هذا الوجود
تقويض السيادة الجغرافية، ومنع الدولة من بسط سلطتها على كامل الأرض.
عرقلة أي مسار لبناء جيش وطني موحد.
استمرار الانقسام الاجتماعي والديموغرافي، نتيجة الاحتلالات المتعددة وميليشياتها.
استنزاف الموارد الطبيعية (نفط، فوسفات، مياه) لصالح القوى المحتلة.
تحويل سوريا إلى ساحة مواجهة إقليمية ودولية دون قدرة على الحياد أو الدفاع.
رابعًا: الطرح الاستراتيجي لتفكيك الوجود العسكري الأجنبي على مراحل
المرحلة الأولى – التعريف السياسي والقانوني
إعلان رسمي من الدولة السورية الجديدة يُصنّف كل وجود عسكري أجنبي خارج المؤسسات الوطنية بأنه غير شرعي.
تقديم ملف موحد إلى الأمم المتحدة يبيّن:
خريطة القواعد.
طبيعة التمدد.
الأثر القانوني والإنساني والاقتصادي.
إنشاء لجنة وطنية مستقلة لرصد وتوثيق الانتهاكات المرتبطة بهذه القوات.
المرحلة الثانية – تحييد الأطراف غير المعنية بالاحتلال طويل الأمد
فتح مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة لجدولة الانسحاب مقابل:
تنسيق في ملف الإرهاب.
ترتيبات أمنية حول منابع النفط.
ضمانات لعدم تسليم المناطق لقوى راديكالية.
فتح مسار تفاوضي غير صدامي مع تركيا، يتضمن:
الانسحاب مقابل اتفاقيات أمنية حدودية.
إعادة تنظيم العلاقة مع فصائل المعارضة.
مشاريع تعاون اقتصادي–لوجستي مشترك تخفّف من مخاوف أنقرة.
المرحلة الثالثة – تفكيك الميليشيات الموازية المدعومة من إيران وروسيا
إصدار قانون سيادي يُجرّم حمل السلاح خارج المؤسسة العسكرية.
فتح باب الاندماج المشروط في الجيش الوطني لمن تنطبق عليه المعايير.
الضغط السياسي والدولي لإنهاء الدور الموازي للحرس الثوري و”فاغنر” داخل المؤسسات.
المرحلة الرابعة – استخدام القانون الدولي والدبلوماسية المتعددة
اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لتقديم مذكرات قانونية بشأن الوجود غير الشرعي.
تعبئة الدول الصديقة والمحايدة (أمريكا اللاتينية، إفريقيا، شرق آسيا) لدعم مطلب إنهاء الاحتلال.
إطلاق حملة إعلامية قانونية–حقوقية تُعرّي الاحتلال العسكري متعدد الجنسيات في سوريا.
خامسًا: بناء البديل الوطني – توطين الأمن واستعادة السيطرة
إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية على قاعدة السيادة والاحتراف.
تعزيز حضور الجيش في المناطق التي تُخلى من الاحتلال ضمن خطة تدريجية.
تطوير أجهزة الأمن الوطني لتكون بديلاً عن شبكات النفوذ الأجنبي.
ربط الانسحاب ببرنامج تنمية وطني يُشرك المجتمع المحلي ويعزز الثقة بالدولة الجديدة.
خاتمة الفصل:
لن تُبنى الدولة السورية في ظل سلاحين،
ولا تُستعاد السيادة بتنازلات متبادلة بين الاحتلالات،
بل من خلال وضوح الرؤية، وحدة الإرادة، وبناء القوة الوطنية المستقلة.
فالوجود الأجنبي، أكان عدوًا ظاهرًا، أو حليفًا استُدعي ثم تمركز،
يبقى احتلالًا ما لم يُخضع لسيادة الدولة وموافقة الشعب.
وفي مشروع النهضة، لا مكان لراية أجنبية تُرفع فوق الأرض السورية،
ولا لسلاح لا ينتمي للشعب،
ولا لتحالف لا يُخدم إلا مصالحه.