القسم الثاني عشر – الباب الخامس
الفصل الرابع والعشرون الصراع العربي–الإسرائيلي
التموضع السوري في معادلة الردع والدبلوماسية
تمهيد:
منذ النكبة عام 1948، شكّل الصراع العربي–الإسرائيلي أحد المحاور المركزية في تشكيل السياسات السورية، بل وفي إنتاج سردية الدولة نفسها.
فقد استخدم النظام السوري هذا الصراع لسبعة عقود ذريعة لتبرير القمع، ولتعليق الإصلاح، ولتثبيت معادلة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” رغم غياب المعركة ذاتها، فيما ظل الجولان محتلًا، وبقيت حدود الاشتباك مغلقة، وتحول شعار “المقاومة” إلى غطاء لتحالفات إقليمية مشبوهة وتدخلات لا تمتّ للسيادة ولا للمبادئ بصلة.
في الدولة السورية الجديدة، لا يمكن التهرّب من هذا الملف، ولا استعادته بشعارات الماضي، بل يجب إعادة صياغة موقع سوريا في الصراع العربي–الإسرائيلي من منظور وطني–سيادي مستقل، يُزاوج بين منطق الردع، ومنطق الدبلوماسية، دون خضوع، ودون استثمار داخلي زائف.
ويُعالج هذا الفصل المسألة ضمن مقاربة منهجية تقوم على التشخيص التاريخي، وتفكيك البُعد الوظيفي للصراع في السياق السوري، وفهم التموضع الإقليمي الجديد، ثم طرح استراتيجية وطنية جديدة للتعامل مع إسرائيل كواقع وخصم، ضمن معادلة الردع والسياسة لا الانفعال أو الإذعان.
أولًا: السياق التاريخي للصراع السوري–الإسرائيلي: من الاشتباك إلى الجمود
1948–1973
خاضت سوريا أربع حروب رئيسية ضد الكيان الإسرائيلي (1948، 1967، 1973، لبنان 1982).
أُحتل الجولان في عام 1967، ولم تستطع الدولة السورية استعادته رغم الخطاب المتكرر بالمقاومة.
انتهت حرب أكتوبر بهدنة، وحافظت الحدود السورية–الإسرائيلية على هدوء غير معلن منذ عام 1974.
1974–2011
تحوّلت الجبهة الجنوبية إلى أكثر الجبهات هدوءًا، فيما ظل النظام يزايد بخطاب “الممانعة”.
لم تُطلق رصاصة واحدة من الجولان، بينما كانت دمشق مركزًا للتدخلات الإقليمية من لبنان إلى فلسطين.
ما بعد 2011
دخلت العلاقة مرحلة تعقيد أكبر:
لم تُستهدف المواقع المركزية للنظام رغم استهدافات إسرائيلية متكررة للمواقع الإيرانية.
وتحوّل الجولان إلى ساحة “أمنية رمادية”، تُنسّق فيها إسرائيل مع روسيا، وتضبط فيها تحركات إيران.
ثانيًا: تفكيك التوظيف السياسي للصراع من قبل النظام السابق
في الداخل:
تحويل الصراع إلى غطاء لقمع الحريات.
تجريم أي حديث عن التفاوض كخيانة.
تعليق الإصلاحات السياسية والاقتصادية بذريعة “العدو المتربص”.
في الخارج:
استخدام “المقاومة” كأداة تحالف مع إيران وحزب الله.
توظيف القضية الفلسطينية لشرعنة النظام سياسيًا داخل المحافل الدولية.
الصمت الفعلي أمام التوسع الإسرائيلي في الجولان وحياده عن المواجهة الحقيقية.
ثالثًا: تحليل التموضع الإسرائيلي الجديد في الجنوب السوري
منذ 2018، تغيّر السلوك الإسرائيلي في سوريا جذريًا:
زيادة وتيرة الضربات الجوية على أهداف إيرانية وميليشيوية.
تنسيق غير مباشر مع روسيا بشأن قواعد الاشتباك.
دعم قنوات تواصل أمنية مع فصائل محلية في الجنوب لتأمين “منطقة عازلة”.
محاولات مستمرة لتحييد الجبهة السورية عن أي توتر إقليمي أوسع.
الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل:
منع إيران من بناء جبهة ثانية في الجولان.
تكريس واقع الجولان المحتل كحدود دائمة غير قابلة للتفاوض.
هندسة الواقع الميداني في الجنوب السوري بما يضمن “أمنًا مستقرًا لإسرائيل دون كلفة دبلوماسية”.
رابعًا: تقييم الموقف السوري في الدولة الجديدة – بين الحق والتحدي
الحق السوري ثابت ولا يسقط:
الجولان أرض محتلة بالقانون الدولي.
قرارات مجلس الأمن (242، 338) تؤكد على ضرورة الانسحاب من الأراضي المحتلة.
لكن استعادة الحق تتطلب تغيير شروط المعادلة:
لا بالاستجداء الدولي.
ولا بإعادة إنتاج شعارات الخداع التعبوي.
بل ببناء دولة تمتلك أوراق قوة، وموقع تفاوض، ورؤية سيادية واضحة.
خامسًا: الطرح السيادي الجديد للتعامل مع الصراع
- بناء معادلة الردع الواقعي
تطوير قدرات دفاعية وطنية شرعية تضبط ميزان الردع.
تحييد التدخلات الأجنبية التي تُستخدم لتبرير الضربات الإسرائيلية.
منع تحويل الجبهة الجنوبية إلى ساحة تصفية حسابات إيران–إسرائيل.
- إعادة تعريف الموقف التفاوضي السوري
لا تفاوض دون اعتراف إسرائيلي بانسحاب كامل من الجولان.
لا اتفاقات منفردة دون إجماع وطني ومشروعية تمثيلية داخلية.
التفاوض لا يعني التطبيع، بل استعادة الحق بالقانون والقوة الدبلوماسية والسياسية.
- فصل القضية الفلسطينية عن الاستخدام السياسي
دعم واضح للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
إنهاء التوظيف الفصائلي أو الإيديولوجي للقضية داخل سوريا.
تقديم سوريا نموذجًا لدولة عربية تدعم فلسطين دون أن تبتلعها الشعارات أو المحاور.
- دبلوماسية نشطة في المحافل الدولية
إعادة تنشيط ملف الجولان المحتل في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
تشكيل تحالف دبلوماسي مع دول رافضة للاحتلال (جنوب إفريقيا، فنزويلا، دول عدم الانحياز).
إطلاق حملات دولية قانونية حول الاستيطان، التهويد، وشرعنة الاحتلال.
سادسًا: المزاوجة بين ردع الاحتلال وفتح المجال للمبادرة
سوريا لا تُبادر نحو الحرب، لكنها لا تستبعد أي أداة لتحرير أرضها.
مشروع الدولة لا يبنى على جبهة مشتعلة، بل على جبهة يقظة تمتلك أدوات الردع.
لا تُكرَّس إسرائيل كحقيقة جغرافية حتمية، بل تُعامل كاحتلال قابل للزوال.
خاتمة الفصل:
لم يكن الصراع مع إسرائيل لحظة عابرة في الوجدان السوري،
لكنه تحوّل – بيد الاستبداد – إلى أداة قمع،
وبيد المحاور – إلى أداة مقايضة.
أما في الدولة السورية الجديدة،
فلا يُخاض الصراع من موقع المهزوم،
ولا يُخطف من قبل حلفاء متورطين.
بل يُعاد تعريفه كقضية وطنية،
يُدافع فيها عن الأرض،
ويُفصل فيها بين المبادئ والوظائف،
وتُبنى فيها معادلة واقعية:
سوريا لا تستسلم، ولا تساوم، لكنها تقاتل بحكمة، وتفاوض من موقع السيادة.