web analytics
القسم الثاني عشر – الباب السادس

الفصل التاسع والعشرون الجنوب السوري في مواجهة العدوان الإسرائيلي

الجغرافيا بوصفها جبهة ومصيرًا

تمهيد:

من بين كل الجبهات السورية، تبقى جبهة الجنوب – الممتدة من درعا إلى القنيطرة إلى سفوح الجولان المحتل – الأكثر حساسية، لا فقط لأنها الجبهة الأقرب إلى العدو الإسرائيلي، بل لأنها كذلك الجبهة التي تلاقت فيها عناصر الاحتلال، والثورة، والانكشاف، والصراع على الهوية والسيادة دفعة واحدة.

فمنذ حرب حزيران 1967، واحتلال الجولان، تحوّلت الجغرافيا الجنوبية من منطقة تماس مباشر، إلى ساحة هادئة سياسيًا، لكنها مملوءة بالتوتر الكامن، ثم انفجرت لاحقًا بعد 2011، لتصبح بؤرة اشتباك مركبة بين إسرائيل، وإيران، وروسيا، وفصائل سورية متعددة الولاءات، وسط انسحاب أو تواطؤ جزئي للنظام السابق.

وفي الدولة السورية الجديدة، لا يمكن أن تُبنى السيادة بمعزل عن هذه الجبهة، ولا يمكن ترك الجنوب في موقع “التعليق”، بين واقع الاحتلال، وانعدام القرار، واستمرار الاختراقات. بل يجب إعادة تعريف الجنوب بوصفه نقطة انطلاق لا نقطة ضعف، وجبهة وطنية لا مجرد حدود مرسومة.

ويُعالج هذا الفصل الجنوب السوري من خلال مقاربة تحليلية–توثيقية تنطلق من الجغرافيا، وتوثّق نمط العدوان الإسرائيلي، وتفكّك معادلات الاحتلال والفراغ، ثم تطرح رؤية جديدة لاستعادة الجنوب، ليس عسكريًا فقط، بل سياسيًا واجتماعيًا وسياديًا.

أولًا: الجغرافيا السياسية للجنوب السوري – خريطة الجبهة المفتوحة

يشمل الجنوب ثلاث محافظات رئيسية:

درعا: مركز الانتفاضة الشعبية الأولى، وبوابة الحدود الأردنية–الإسرائيلية.

القنيطرة: المحافظة الحدودية مع الجولان المحتل، ساحة تماس مباشر مع الاحتلال.

السويداء: المحافظة ذات الأغلبية الدرزية، والتي بقيت نسبيًا خارج السيطرة العسكرية الكاملة لأي طرف.

يتسم الجنوب بمجموعة من الخصائص الجيوسياسية الفريدة:

التحام مدني–ريفي قوي مع الجوار الأردني.

هشاشة السيطرة المركزية بسبب تعقيد البنية العشائرية والمذهبية.

الاقتراب الاستراتيجي من إسرائيل، ما جعله ساحة لاشتباك خفي بين تل أبيب وطهران.

ثانيًا: توثيق منظومة العدوان الإسرائيلي بعد 2011

أ. الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة

منذ عام 2013 وحتى اليوم، نفّذت إسرائيل مئات الضربات داخل الأراضي السورية، معظمها في الجنوب.

الأهداف المعلنة:

مواقع تابعة لإيران وحزب الله.

مستودعات أسلحة أو تحركات لميليشيات.

منشآت عسكرية يُعتقد أنها تشكّل تهديدًا لإسرائيل.

الأهداف غير المعلنة:

ترسيخ معادلة ردع غير متكافئة دون الدخول في حرب شاملة.

منع بناء عمق عسكري لإيران قرب الجولان.

اختبار وتنسيق فعلي مع موسكو حول قواعد الاشتباك.

ب. إسرائيل كفاعل غير مباشر في رسم خرائط الجنوب

تدخلات سياسية وأمنية عبر وكلاء محليين.

دعم بعض الفصائل أو توفير “شبكات إنذار” بشرية في القنيطرة ودرعا.

توظيف الواقع الميداني لتكريس فكرة أن الجولان “منطقة مستقرة” بالمقارنة مع الفوضى السورية.

ثالثًا: تفكيك معادلات السيطرة والفراغ جنوب سوريا

لا تخضع مناطق الجنوب لسيطرة موحدة، بل تشهد:

وجودًا رمزيًا ضعيفًا للقوات النظامية القديمة، غالبًا تحت الرعاية الروسية.

تواجدًا غير مُعلن للميليشيات الإيرانية أو المرتبطة بها في محيط درعا والقنيطرة.

قوى محلية من أبناء المنطقة تسيطر على بعض المفاصل، بين الولاء والتفاوض والحياد.

فراغ إداري وخدمي يسمح بتنامي الفوضى المنظمة.

هذا التفكك أتاح لإسرائيل هامشًا واسعًا للضربات والاختراقات دون ردّ، بل ودون أي خطاب رسمي جديد يعرّف الجبهة بوصفها محتلة.

رابعًا: تحليل الصمت الرسمي تجاه العدوان الإسرائيلي

النظام السابق لم يرد على أي ضربة، بل اعتبر بعضها “مؤامرة إيرانية” لتوريطه.

الخطاب الرسمي فقد مصداقيته أمام الشعب، بل صار التنديد بالاحتلال يُستخدم كغطاء للعجز الداخلي.

إيران استثمرت في الوجود الرمزي المقاوم، بينما تجنّبت أي صدام مباشر مع إسرائيل.

الجنوب تُرك عاريًا سياسيًا وعسكريًا، بل أصبحت بعض قرى القنيطرة تعمل ضمن ترتيبات “خفض التصعيد” المفروضة إسرائيليًا–روسيًا.

خامسًا: المشروع السيادي الجديد في الجنوب – من الجبهة إلى نقطة الانطلاق

أ. الاعتراف السياسي بواقع الاحتلال والتدخل

إعلان الجنوب السوري منطقة محتلة أمنيًا–فعليًا جزئيًا، وخاضعة لاختراق خارجي.

فتح ملف الجولان المحتل بوصفه جبهة قائمة لا نائمة، تستوجب استراتيجية وطنية ودولية متكاملة.

ب. إعادة تعريف الجنوب كمجال وطني لا كمنطقة معزولة

دمج الجنوب في المشروع الوطني الشامل على مستوى:

التمثيل السياسي.

المشاريع التنموية.

خطة التحرير والاسترداد.

ج. بناء شبكة دفاع سيادية غير مستتبعة

تشكيل قوة دفاع وطنية من أبناء الجنوب تحت مظلة الجيش الوطني الجديد.

حظر أي تشكيل ميليشيوي مرتبط بالخارج، سواء من جهة إيران أو غيرها.

التنسيق مع القوى العربية المستقلة لتحصين الجنوب ضد المشروع الصهيوني أو الإيراني أو التركي.

سادسًا: المسار الدولي والحقوقي لإعادة فتح ملف العدوان

إعداد ملف قانوني موثق بكل الضربات والانتهاكات الإسرائيلية بحق السيادة السورية.

تحريك هذا الملف في المحافل الدولية مع الدول التي لا تزال تعترف بالجولان كأرض محتلة.

إطلاق حملة إعلامية حقوقية تُخرج الجنوب من صمته المفروض، وتُعيد تسليط الضوء على الاحتلال المستمر.

خاتمة الفصل:

الجنوب ليس “منطقة فاصلة”،
ولا مجرد شريط حدودي بين دمشق وتل أبيب،

بل هو الجبهة التي تُختبر فيها جدية مشروع الدولة، وقدرته على المواجهة، وعلى البناء، وعلى الدفاع عن الكرامة والسيادة.

وفي الدولة السورية الجديدة،
لا تُترَك الأرض للاحتمال،
ولا يُسكَت العدوان بالتجاهل،
بل يُعاد تعريف الجنوب بوصفه قلب المعركة المقبلة:
معركة السيادة، والمشروعية، والانتماء.