القسم السابع – الباب الخامس
الفصل السابع والعشرون بناء الهوية الدستورية
من الطوائف والقبائل إلى الأمة–العقد
اولاً: مدخل: الهوية ليست شعارًا بل وظيفة تأسيسية للدولة
لا تُبنى الدول فقط على الجغرافيا والقانون،
بل على هوية جامعة تعترف بالكل وتحتضن التنوع،
وتُحرّر المواطن من التمثيل القسري داخل طائفة أو عشيرة أو حزب.
في التجربة السورية، تم احتكار الهوية باسم القومية، وتفصيل الوطنية على مقاس الطاعة.
فأُقصي الكرد، وهُمّش الآشوريون، وصُهر الجميع قسرًا في خطاب الدولة الواحدة والشعب الواحد والرئيس الواحد.
ولذلك، فإن الدولة النهضوية لا يمكن أن تقوم على هوية مملاة من فوق،
بل على عقد جامع،
تقوم فيه الهوية بوظيفة سياسية–دستورية تؤسس للانتماء لا للطرد،
وللمواطنة لا للتماهي القسري.
ثانياً: من الهوية الأحادية إلى الانتماء التعددي – فلسفة الهوية الدستورية
الهوية الدستورية لا تفرض لونًا موحدًا،
ولا تنفي الفروقات الثقافية واللغوية والدينية،
بل تدمجها ضمن فضاء وطني مشترك، أساسه:
الاعتراف بالتعدد لا نفيه.
المساواة الكاملة في الانتماء والسيادة.
عدم تحويل الهويات الموروثة إلى أدوات للتمييز أو الولاء.
ربط الهوية بالمواطنة الفعلية لا بالأصل أو اللغة أو الطائفة.
الهوية الدستورية هنا ليست مجرد مادة في الدستور،
بل الأساس النظري والسياسي لقيام عقد وطني جديد،
يتجاوز منطق “الدولة ضد المجتمع” أو “الطائفة ضد الوطن”.
ثالثاً: المبادئ التأسيسية للهوية في النص الدستوري
لكي تؤدي الهوية الدستورية وظيفتها في تأسيس الأمة، لا تفكيكها، يجب أن تستند إلى المبادئ التالية:
حياد الدولة التام تجاه الانتماءات القومية والدينية والطائفية.
الاعتراف الدستوري بالتنوع الثقافي واللغوي في سوريا.
اعتماد اللغة الكردية، والسريانية، والأرمنية وغيرها كلغات وطنية إلى جانب العربية.
ضمان تمثيل جميع المكونات دون محاصصة أو تمييز.
رفض اختزال الدولة في أي هوية أيديولوجية أو طائفية أو قومية.
ربط الانتماء الوطني بالحقوق والواجبات، لا بالدم أو العقيدة.
رابعاً: أدوات بناء الهوية الدستورية في الدولة النهضوية
أولًا: عبر النص الدستوري
دسترة التعددية الثقافية واللغوية.
منع التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الانتماء الجغرافي.
تكريس مبدأ المواطنة كأساس وحيد للعلاقة مع الدولة.
ثانيًا: عبر المؤسسات
إصلاح الإعلام ليعكس التعدد لا يطمسه.
إصلاح التعليم لبناء وعي وطني غير إقصائي.
ضمان حضور كل المكونات في الثقافة والسياسات والفضاء العام.
ثالثًا: عبر الرمز والتمثيل
إعادة تعريف رموز الدولة (العلم، النشيد، الخطاب الرسمي) كمُلك جماعي لا كامتداد للسلطة السابقة.
ضمان التعدد في النخب الحاكمة والإدارات العليا بعيدًا عن المحاصصة، عبر الكفاءة والتمثيل العادل.
خامساً: خارطة التنفيذ – من التنظير إلى التحوّل المؤسسي
المرحلة الأولى – التشريع التأسيسي:
إقرار الهوية الدستورية الجامعة في الدستور.
تعديل القوانين التمييزية أو الإقصائية.
إنشاء مفوضية عليا للتنوع والمواطنة.
المرحلة الثانية – التمكين المؤسسي:
إنشاء معاهد وطنية لدراسة التنوع وصياغة السياسات الثقافية الجامعة.
تدريب كوادر الدولة على العمل في بيئة تعددية.
تمكين مشاركة المرأة والأقليات والفئات المُهمّشة في الحياة العامة.
المرحلة الثالثة – إعادة بناء الوعي:
إطلاق حملات توعية وطنية عن المواطنة الجامعة.
دعم الإنتاج الثقافي المتنوع.
تعزيز المنابر المجتمعية للحوار بين الهويات المختلفة.
سادساً: نحو أمة–عقد لا طائفة–دولة
إن أكبر خطر يهدد سوريا الجديدة ليس الجغرافيا،
بل أن يُعاد تعريفها كدولة لطائفة، أو هوية، أو قومية واحدة.
وهذا ما دمرها سابقًا، وسيفتك بها مستقبلاً إن لم يُعالَج جذريًا.
النهضة السياسية الحقيقية تبدأ حين يُعاد تعريف “من هو السوري؟”
لا كنسخة من خطاب المركز،
بل كفرد حر، شريك في القرار، متساوٍ في الحقوق،
سواء تكلم العربية أو الكردية أو السريانية…
وسواء كان مسلمًا أو مسيحيًا أو غير منتمٍ.
حينها فقط، تُولد سوريا من جديد…
لا كدولة أفراد مشتتين،
بل كأمة واحدة متعددة،
موحّدة بالعقد… لا بالماضي،
ومتّفقة على أن الوطن ليس لمن يُشبه الأكثرية،
بل لمن يشارك في صناعته.
خاتمة القسم: من هندسة الدولة إلى بناء المعنى الوطني
لم يكن هذا القسم مجرّد تنظيم للمؤسسات أو إعادة ترتيب للصلاحيات،
بل كان فعلًا تأسيسيًا لمرحلة انتقالية مفصلية في مشروع النهضة السورية.
مرحلة ننتقل فيها من فلسفة المفاهيم إلى هندسة الهياكل،
ومن الحلم النظري إلى البنية الممكنة.
لقد سعينا عبر هذه الفصول إلى بناء دولة لا تُستنسخ من الخارج،
ولا تُختزل في طائفة أو حزب أو زعيم،
بل تُصاغ من الداخل السوري، وفق تصور سيادي–مدني نابع من الوعي،
ومشدود إلى المستقبل دون إنكار للذاكرة أو تفريط في السيادة.
في كل مفصل من هذا القسم،
كنا نُعيد التفكير في الدولة بوصفها أداة للحياة، لا مبررًا للقهر،
ونُعيد وضع المؤسسات في موقعها الطبيعي: خادمة للإنسان، لا سجّانة له.
من الدستور إلى الإدارة، ومن القضاء إلى الرقابة،
ومن الأمن إلى الثقافة، ومن تمثيل الفئات المهمشة إلى العدالة القانونية،
كان هدفنا الوحيد: تأسيس جمهورية المعنى، لا جمهورية الصمت.
ولكن… لا تكفي المؤسسات وحدها لتوليد وطن.
ولا تصنع الدساتير وحدها انتماءً.
ولا يكفي أن نُهندس البنى، إن لم نُفعّل الروح التي تسري فيها.
لذلك، ينتقل مشروعنا في القسم الرابع نحو الركيزة الأكثر حساسية وعمقًا:
نحو السياسات الكبرى التي تصوغ الوطن كمعنى، لا كخريطة فقط،
ونحو بناء الهوية الجامعة، والمصالحة المجتمعية، وتحرير الذاكرة،
ونحو إجابة الأسئلة المؤجلة:
من نحن؟ بماذا نؤمن؟ كيف نتصالح؟ وكيف نبني سوريا الجديدة كعقد لا كغنيمة؟
إننا نغلق هنا باب “الهندسة المؤسسية”،
لكننا نفتح الأفق أمام إعادة بناء الوعي، والسياسة، والانتماء،
وننتقل من عقل الدولة إلى قلب المجتمع…
لنبدأ ما هو أصعب: بناء سوريا التي تستحق الحياة.