web analytics
التقدمة الرابطة بين القسم الثاني والثالث

المحور الأول في تعريف الرؤية النقدية

بين الجدل الفلسفي والتهمة الطوباوية

عند طرح الموقف الجذري من السلطة كاختيار فكري وأخلاقي، تخرج الاتهامات المعتادة: هذا طوباوي، متشدد، غافل عن تعقيدات الواقع، عديم الحس السياسي. ويُنظر غالبًا إلى التوق إلى سلطة شفافة وعادلة وخاضعة للمساءلة كأمر خارج عن المعقول، أو ترف نخبوي لا مكان له في أرض السياسة.

لكن هذا التشخيص السريع يُخفي إرباكًا أعمق أمام نموذج لا يقبل أن تكون السلطة محصّنة من النقد أو محمية بحجة الضرورة. الرؤية التي نقدّمها هنا لا تنقلب على الواقع، بل تدخل معه في مواجهة نقدية تهدف إلى رفعه، لا إلى نفيه. وهي لا تطالب بالمستحيل، بل تنحاز إلى الممكن الأعلى، وترفض تسويته باسم الظرف.

وهنا يصبح من الضروري التمييز بين هذه الرؤية وثلاثة أشكال من الخلط المفاهيمي الشائع:

  1. ليست طوباوية منفصلة عن الواقع

الطوباوية تخلق عالماً مثالياً لا صلة له بإكراهات الزمن. أما ما نتحدث عنه هنا، فهو وعي نقدي ينبع من داخل التاريخ، ويشتبك مع لحظته من أجل تحريرها، لا القفز فوقها. هذه الرؤية لا تتعالى على الواقع، بل تشتغل عليه باستمرار، لا تقبله كما هو، ولا ترضى بإبقائه على حاله.

  1. ليست تصلبًا أخلاقيًا

في وجه الموقف القيمي، غالبًا ما يُرفع سلاح الاتهام بالتعصب أو النقاء المطلق. لكن ما نقدمه لا يرفض الانخراط، بل يرفض التبرير الصامت. لا يُطالب بالكمال، بل يرفض تحويل العجز إلى فضيلة، والاستثناء إلى قاعدة. إنه ضمير حي يرفض التنازل عن المعيار، لا لأنه جامد، بل لأنه ضروري.

  1. ليست عداءً للسلطة بل نقدًا لتجاوزاتها

لا تستبطن هذه الرؤية خصومة مطلقة مع مفهوم السلطة، بل ترفض تحولها إلى جهة تحتكر الحقيقة أو تُفلت من المراجعة. إنها لا تكتفي بمعارضة السلطة من الخارج، بل تفككها من الداخل: في خطابها، في منطق شرعنتها، وفي الكيفية التي تنتج بها ذاتها ومعناها.

خلاصة المحور:

إن الموقف القيمي الجذري، كما نتبناه ضمن مشروع النهضة، ليس ردّ فعل غاضبًا، ولا احتجاجًا عابرًا، بل أداة تأسيس تحول دون تكرار المسار القديم بوجه جديد. ليست هذه الرؤية ضد الواقع، بل ضد القبول بتشوهه. وهي لا ترفض الممكن، بل ترفض تزوير الممكن باسم الواقعية.

إنها الوعي الحي الذي لا يقبل أن يكون سقف طموحاتنا هو أدنى مما تسمح به السلطة.