التقدمة الرابطة بين القسم الثاني والثالث
المحور الثالث آليات التجميل السياسي وخطر الواقعية المسمومة
في لحظات ما بعد الانهيار، حين يكون المجتمع منهكًا، مشتتًا، ومتلهفًا لأي استقرار—even لو كان هشًّا—تُصبح السلطة الجديدة قادرة على إعادة تعريف القبح بوصفه تحسنًا، والانتهاك كضرورة، والركود كحكمة. وتُمارَس السلطة حينها من خلال آلية دقيقة تُعيد ترتيب الوعي العام كي يتكيف مع شروطها الجديدة.
هذا ما نسميه: التجميل السياسي—وهو ليس مجرد تزيين لغوي، بل استراتيجية رمزية–نفسية تُحوّل الرداءة إلى مكسب، والتناقض إلى ميزة، وتُفرغ المفاهيم من مضامينها.
- الواقعية حين تصبح غطاءً للتنازل
شعار “دعونا نكون واقعيين” يُستخدم عادةً لكبح كل تطلع نحو الأفضل. لكنه يتحول، مع الوقت، إلى وسيلة لإخماد المعيار، وتخفيض السقف، وتجميل الانحدار. الواقعية الحقيقية لا تبرر القبح، بل تُديره دون أن تشرعنه. أما الواقعية التي تُسوّق الرداءة على أنها ضرورة، فهي شكل ناعم من أشكال الانحدار الأخلاقي.
- فزاعة البديل كأداة طاعة
في السياق السوري، تَطرح بعض الخطابات البديل الثوري ككارثة مفترضة: “هل تريدون فوضى؟ طالبان؟ ليبيا أخرى؟”. وهكذا تُصبح السلطة، مهما كانت متعثرة، أقلّ الشرور. لكن هذا المنطق هو نفس منطق الأنظمة التي قمعت شعوبها باسم “حمايتهم من الأسوأ”. وهو ما يجب تفكيكه لا الخضوع له.
- المقارنة بالنظام الساقط: معيار مشوَّه
حين تُقيَّم السلطة الجديدة بناءً على فظائع من سبقها، يصبح الحد الأدنى مكسبًا، ويُقدَّم الانفجار القديم كأداة تلميع للوضع القائم. لكن مشروع النهضة لا يُقارن بالسابق، بل يُقاس بما يجب أن يكون. فالأخلاق لا تُبنى على أن “الوضع أقل سوءًا”، بل على معيار يُحاكم الفعل من جذره، لا من ظرفه.
- تحويل التراجع إلى منجز
حين تُصبح إعادة فتح شارع، أو توزيع سلعة أساسية، أو عقد مؤتمر، إنجازًا وطنيًا يُحتفل به، نكون أمام عملية إفراغ كامل لفكرة الإنجاز. هنا لا تُحقّر الأفعال الصغيرة، بل يُعاد وضعها في حجمها الطبيعي، حتى لا تتحول إلى أقنعة تخفي الفشل الهيكلي.
خلاصة المحور:
حين تتحول اللغة إلى أداة تخدير، والمقارنة إلى معبر تبرير، والواقعية إلى ذريعة للخنوع، يفقد المجتمع قدرته على التقييم، وتُصبح الرداءة جزءًا من الوعي. المشروع النهضوي بحاجة إلى بوصلة قِيَمية لا تسمح بانحراف اللغة ولا انحدار المعيار. لا لأننا نطلب المستحيل، بل لأننا نرفض أن نعيش في الممكن المشوَّه.