web analytics
التقدمة الرابطة بين القسم والثالث

المحور الثامن استمرارية الضمير الأخلاقي

 حماية المشروع من التآكل الداخلي

ليست التحديات الكبرى التي تواجه المشاريع النهضوية محصورة في المواجهة مع الاستبداد القديم أو مع الانهيار المجتمعي فحسب، بل تكمن، في جزء لا يقل خطورة، في قدرة المشروع ذاته على حماية معاييره من الانزلاق التدريجي تحت ضغط الضرورة، أو فتنة السلطة، أو إرهاق الزمن.

فالتاريخ مليء بمشاريع تحررية تحولت، مع مرور الوقت، إلى أنظمة جديدة لا تختلف في جوهرها عن تلك التي ثارت عليها، لأنها فقدت بوصلة النقد الداخلي، أو استبدلت القيم بالمصالح، أو علّقت المبادئ باسم “الإكراهات الواقعية”.

لهذا، لا تكتمل شروط النهضة إلا بإدخال استمرارية الضمير الأخلاقي إلى صميم بنية الدولة الجديدة، ليس كشعار، بل كنظام عمل حي، يُمارس كما تُمارَس الوظائف، لا كما تُتلى البيانات.

  1. الوعي بالمخاطر الداخلية

أخطر ما يمكن أن يهدد المشروع هو تطبيعه البطيء مع أدوات الهيمنة باسم الكفاءة، أو تخليه التدريجي عن النقد باسم الاستقرار، أو تحوّله من حاملٍ للقيم إلى حاملٍ للسلطة. الوعي بهذه المخاطر يجب أن يكون جزءًا من التربية السياسية للمجتمع الجديد، لا مجرد تحذير طارئ.

  1. بناء آليات حماية داخلية

لا يكفي أن توجد مؤسسات للمحاسبة القانونية؛ بل لا بد من وجود فضاءات نقد ذاتي حقيقية ضمن كل مؤسسة، تسمح بالمراجعة الدائمة للسياسات على ضوء المعيار القيمي، وليس فقط وفق معايير الإنجاز التقني أو السياسي.

  1. المرونة في الوسائل، الصلابة في المبادئ

السياسة قد تتطلب مرونة في الأدوات، لكن المبادئ يجب أن تبقى خطًا أحمرًا لا يُمسّ. التكيف مع الواقع لا يعني التفريط بالكرامة، والبراغماتية المقبولة هي تلك التي تدير التعقيد دون أن تفرغ المشروع من روحه.

  1. تجديد المثالية بوصفها ممارسة لا شعارات

المثالية النقدية لا تعني تصلبًا جامدًا، بل تعني تجديدًا مستمرًا للمعنى في كل مفصل من مفاصل العمل العام. يجب أن تُزرع ثقافة النقد الدوري، والمراجعة الأخلاقية، ومحاسبة الذات، حتى لا تتكلس الفكرة تحت طبقات الضرورة اليومية.

خلاصة المحور:

مشروع النهضة لا يعيش على وهج البدايات فقط، بل يستمر بقدر ما يحمي نفسه من الانجراف الصامت نحو ما كان يقاومه. والضمير النقدي الذي يُغرس في مؤسسات الدولة الجديدة، هو وحده الكفيل بأن تبقى الحرية حية، والكرامة مصانة، والمعنى حيًّا لا يتآكل تحت أثقال السياسة.

إن معركة النهضة الكبرى ليست فقط ضد الخارج، بل أيضًا ضد القابلية للانزلاق في الداخل. ولهذا، يصبح الضمير الحي، المتجدد، والمسلّح بالنقد البنيوي، هو الحارس الأول للمشروع، لا المراسم ولا الشعارات.