التعليم كمصنع للوعي والمواطنة
مقدمة تحليلية
في مجتمعات القمع، لا يُستخدم التعليم لتمكين العقل، بل لترويضه.
يتحوّل الصف المدرسي إلى نسخة مصغّرة عن الدولة السلطوية:
المعلم هو السلطة،
التلميذ هو المتلقي الصامت،
والمنهاج هو خطاب الولاء والتلقين.
هكذا كانت المدرسة السورية لعقود طويلة:
أداة هندسة للعقل الجمعي وفق أيديولوجيا النظام، لا وفق احتياجات الإنسان،
ومصنعًا لإنتاج الخوف والطاعة، لا النقد والمشاركة.
وحين اندلعت الثورة، ظهر جيل كامل لم يمتلك الأدوات المعرفية والسياسية لفهم التحول، أو التأثير فيه، أو حمايته من الانزلاق إلى التطرف أو الفوضى.
إننا اليوم بحاجة إلى ثورة تربوية توازي الثورة السياسية،
ثورة تُعيد صياغة التعليم بوصفه أداة للتحرير والنهضة، لا وسيلة للضبط والسيطرة.
أولًا: التعليم في ظل النظام – أداة تطويع لا تحرر
- المناهج المؤدلجة
اختزال التاريخ في سردية السلطة،
تغييب الوعي السياسي والمواطنة،
تمجيد الزعيم، وتشويه الآخر. - البيئة التربوية السلطوية
الخوف هو اللغة السائدة داخل الصف،
الانضباط الصارم فوق الإبداع،
العقاب الجماعي بدل الحوار النقدي. - تهميش القيم المدنية والحقوقية
لا مكان لقيم الحرية، أو التنوع، أو المساءلة،
وتم اختزال التربية في “الانتماء العقائدي” لا في المسؤولية المجتمعية.
ثانيًا: انهيار المنظومة التعليمية في الحرب
- دمار واسع للمدارس والبنية التحتية.
- هجرة المعلمين والخبرات، وانقطاع ملايين الأطفال عن التعليم.
- نشوء بيئات تعليمية موازية تحت سيطرة فصائل دينية أو مسلّحة.
- فقدان الثقة بالمدرسة كمكان محايد، وتحولها إلى منصة صراع أيديولوجي أو مذهبي.
ثالثًا: التعليم كمصنع للوعي في الدولة الجديدة
- من التلقين إلى النقد
التعليم يجب أن يُربّي على التفكير الحر، لا على حفظ المعلومة.
تنمية المهارات الفكرية، لا فقط الحفظ والتكرار. - من الولاء إلى المواطنة
استبدال منطق الانتماء للحزب بمنطق الانتماء للعقد الاجتماعي.
تدريس مفاهيم الحقوق، الواجبات، التعددية، والتنوع. - من إقصاء الآخر إلى فهمه
تضمين مناهج تُعرّف بالهويات المتعددة في سوريا دون تهويل أو محو.
تدريس التاريخ بطريقة تقرّ بالوقائع لا تفرض قراءة رسمية. - من الانعزال إلى الانفتاح
تعزيز التعليم التشاركي، وربط المدرسة بالمجتمع، وبالواقع السياسي والثقافي والاقتصادي المحيط.
رابعًا: شروط النهضة التربوية
- إصلاح جذري للمناهج التعليمية بما يعيد صياغتها على أسس معرفية–قيمية حديثة.
- تأهيل المعلم كمثقف ومربٍّ، لا كشرطي تربوي.
- إدماج التربية المدنية والسياسية كجزء أساسي من التعليم العام.
- تحييد المدرسة عن التسييس والطأفنة والتوظيف الفئوي.
- ضمان المساواة في فرص التعليم، وإزالة الفجوات بين المركز والهامش.
خامسًا: التعليم كأداة سيادة
لا مستقبل لسوريا دون تعليم وطني سيادي:
سيادي بمعناه المعرفي،
لا يتبع أيديولوجيا خارجية،
ولا يُخضع الوعي السوري لوصاية فكرية أو دينية أو سلطوية.
فالتعليم ليس مجرد خدمة، بل هو استثمار في الإنسان – والسيادة تبدأ من الإنسان الحر الواعي.
الخاتمة:
في سوريا ما بعد الاستبداد، لن تُبنى الدولة الجديدة إلا إذا أعدنا تشكيل المدرسة على صورة المستقبل، لا على صورة الماضي.
مدرسة تُنتج مواطنين أحرارًا، لا رعايا مطيعين.
وتُعلّم الأطفال كيف يسألون، لا فقط كيف يجيبون.
فالثورة لا تُصنع في الشوارع فقط، بل تبدأ من الصفوف الأولى،
حين نُعلّم أبناءنا أن حريتهم مسؤولية، وأن وطنهم مشروع معرفة وعدالة.