تأسيس الميثاق الوطني السوري الجديد
مقدمة تأسيسية:
الميثاق ليس مجرد وثيقة، بل هو الروح التي تنفخ الحياة في الدولة، والعقد الذي يربط بين المواطن والسلطة، وبين الأفراد أنفسهم، ضمن جماعة سياسية واحدة.
وفي سوريا، لم يكن هناك ميثاق وطني حقيقي، بل مجموعة نصوص دستورية صِيغت في ظل العسكرة، أو فُرضت في لحظات ضعف ووصاية، أو كُتبت لخدمة الزعيم لا لحماية المجتمع.
لقد أُخضعت سوريا لأنظمة متعاقبة لم تستمد شرعيتها من الشعب، بل من القوة أو الاحتلال أو الطائفية أو الحزب الواحد.
ولذلك، فإن إعادة بناء الدولة تبدأ من تأسيس ميثاق وطني جامع، لا يُملى من فوق، ولا يُفرض بالسلاح، بل يُصاغ من قلب المجتمع، بإرادة حرة، ووعي سيادي، وقيم نهضوية.
أولًا: لماذا نحتاج ميثاقًا وطنيًا جديدًا؟
- لأن الدولة سقطت ومعها سقطت شرعية العقد القديم.
- لأن المجتمع السوري تعرّض لتفكك عميق، يحتاج إلى نقطة توازن عليا يُعاد التأسيس منها.
- لأن سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى على دستور مفروض أو على مخرجات تفاوض دولي هش، بل على قاعدة تعاقد وطني داخلي.
- لأن غياب الميثاق يؤدي إلى تَفكك الانتماء، وشيوع العنف، وتفشي الأوهام الطائفية أو الانفصالية أو الثأرية.
ثانيًا: ما هو الميثاق الوطني في جوهره؟
الميثاق الوطني ليس بديلاً عن الدستور، بل هو ما يُعطي الدستور شرعيته الأخلاقية والشعبية.
وهو ليس تفصيلًا قانونيًا، بل المرجعية العليا التي تُحدّد:
- من نحن كسوريين؟
- ما هي القيم التي نتشاركها؟
- ما هي الحدود التي لا نتجاوزها؟
- وما هي المبادئ التي نريد أن تُبنى عليها دولتنا ومؤسساتنا؟
الميثاق هو التوافق على الهوية الوطنية الجامعة، والمبادئ العليا، والحقوق غير القابلة للتفاوض.
ثالثًا: المبادئ التأسيسية للميثاق الوطني السوري الجديد
- وحدة سوريا أرضًا وشعبًا وسيادة، لا تقبل القسمة أو المحاصصة أو الفدرلة الإثنية أو الاحتلال المقنّع.
- المواطنة المتساوية بوصفها هوية سياسية وأخلاقية، لا تمييز فيها على أساس الدين أو الطائفة أو القومية أو الجنس.
- الحرية السياسية والفكرية والدينية، كحق أصيل لا يُمنح ولا يُقيّد إلا بالقانون.
- العدالة الانتقالية والمحاسبة، لضمان عدم تكرار الجرائم، وحماية الذاكرة الوطنية من النسيان.
- السيادة الوطنية والاستقلال الكامل عن التدخل الخارجي، ورفض كل أشكال الوصاية أو الاحتلال.
- فصل السلطات، وتقييد صلاحيات الحاكم، وإخضاع الجميع للقانون.
- رفض عسكرة الدولة، ونزع الطابع الميليشياوي عن السياسة.
- التعددية السياسية والثقافية كقوة إثراء لا مصدر تهديد.
- كرامة الإنسان كأساس لكل سياسة عامة.
- الدولة كأداة لخدمة الإنسان لا أداة قهره.
رابعًا: آلية بناء الميثاق الوطني
الميثاق الوطني لا يُصاغ في غرفة مغلقة، ولا في صفقة دولية، ولا في مؤسسة خاضعة للنفوذ، بل عبر مسار تشاركي واسع النطاق، يشمل:
- هيئات مدنية وسياسية وشخصيات وطنية مستقلة.
- ممثلين عن الضحايا والمعتقلين والمنكوبين.
- ممثلين عن المجالس المحلية والمكونات المجتمعية كافة.
- مؤسسات بحثية وقانونية مستقلة.
ويجب أن يُبنى عبر حوار وطني شامل، يؤسس لوثيقة مرجعية يتم التوافق عليها قبل كتابة أي دستور دائم.
خامسًا: الميثاق كأداة سيادية لحماية المستقبل
الميثاق الوطني هو ما يمنع عودة الاستبداد، لا مجرد القوانين أو الدساتير المكتوبة.
وهو ما يحفظ هوية الدولة الجديدة من التآكل أو الخطف أو الانحراف.
وحين يُصبح الميثاق ملكًا عامًا، فإن أي سلطة تحيد عنه تُفقد شرعيتها.
إنه السياج الأخلاقي الأعلى للدولة القادمة، وصوت الضمير الجماعي الذي يحكم الحاكم، ويرعى الناس، ويؤسس لعدالة لا تسقط بالتقادم.
الخاتمة:
لا يمكن لدولة أن تقوم فوق أنقاض ميثاق ميت، ولا يمكن لعقد اجتماعي أن يولد من رحم الغلبة أو الخوف.
الميثاق الوطني هو لحظة التحول من “نحن الضحايا” إلى “نحن المواطنون”، من “سوريا المأساة” إلى “سوريا التعاقد”، من “سلطة بلا مساءلة” إلى “شعب بلا خوف”.