web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الأول

الفصل السادس الواقعية الأخلاقية كمنهج

رفض التسويات المدمّرة دون السقوط في الطوباوية

مقدمة تمهيدية

في زمن الانهيار، يصبح الإغراء بالتسويات أقوى من الإيمان بالمبادئ، ويعلو صوت الواقعية المشوّهة التي تبرّر كل تنازل باسم “الضرورة”.

لكن النهضة، بوصفها فعلًا تحرريًا وسياديًا، لا يمكن أن تقوم على الانتهازية، ولا أن تُختزل في شعارات مثالية معزولة عن الواقع.

ومن هنا، فإن هذا الفصل يؤسّس لمنهج الواقعية الأخلاقية، كإطار معرفي وعملي يسمح بفهم المعطيات بوضوح، دون التنازل عن القيم الجوهرية، أو الانسياق وراء الطوباوية غير القابلة للتحقق.

أولًا: من الواقعية السياسية إلى الواقعية المبتذلة

طالما استُخدمت “الواقعية” كمبرر للخضوع، وكغطاء للتنازلات الفادحة التي قُدّمت باسم المصلحة، وهي في الحقيقة لم تكن إلا استسلامًا مقنّعًا، وخضوعًا مُبرمجًا لمعادلات القوة دون أدنى مقاومة.

فتمّت مقايضة السيادة بالأمان، والكرامة بالشرعية الدولية، والإرادة الشعبية بمقاعد في مؤتمرات التسوية.

لكنّ الواقعية في جوهرها لا تعني نفي المبادئ، بل تعني فهم اللحظة التاريخية بعمق، واختيار أدوات التحرك بذكاء، دون الانقلاب على جوهر المشروع أو تحييده.

ثانيًا: الطوباوية كفخ بديل للاستسلام

في المقابل، نشأت موجات مضادة اختارت الانفصال عن الواقع كليًا، فبشّرت بنهضة مستحيلة، ورفعت شعارات نقية لكنها معزولة عن شروط التحقق.

فتحوّلت بعض مشاريع التغيير إلى ما يشبه الأديان السياسية: تُقدّم الطهر الكامل، وتنتظر المعجزة، لكنها لا تنتج تحولًا فعليًا.

ولهذا، فإن الطريق الوحيد لبناء مشروع سيادي قابل للحياة هو الاعتراف بتعقيد الواقع دون الانسحاق أمامه، والتمسك بالمبادئ دون تجميدها في سرديات غير قابلة للتطبيق.

ثالثًا: ملامح المنهج: الواقعية الأخلاقية

الواقعية الأخلاقية ليست توفيقًا ساذجًا بين النقيضين، بل منهجٌ واعٍ يقوم على ثلاث دعائم:

الفهم الكامل للوقائع والمعطيات وموازين القوى دون تجميل أو تهويل.

التمسك بالمبادئ الجوهرية للمشروع الوطني، وعلى رأسها السيادة، الكرامة، الحرية، والعدالة.

اختيار أدوات التحرك وفق الممكن الواقعي، دون تسويات بنيوية تفكك المشروع أو تقوض روحه.

إنها واقعية لا تسعى لإرضاء الممول، ولا لشراء الوقت، بل لإنتاج الفعل الممكن الذي لا يفرّط بالأهداف ولا يُعطّل السعي نحوها.

رابعًا: رفض التسويات المدمّرة: لا تنازل عن جوهر المشروع

العديد من التسويات التي طُرحت على سوريا خلال السنوات الماضية كانت تقوم على مبدأ: “القبول بالأمر الواقع مقابل الاستقرار”.

لكن الاستقرار القائم على القمع أو التبعية هو مجرّد هدنة ملوثة، لا سلامًا حقيقيًا، ومثل هذا “الاستقرار” لم ينتج يومًا نهضة، بل أعاد إنتاج العطب والخذلان.

ولهذا، فإن أي تسوية تفكك وحدة الدولة، أو تُكرّس سلطة غير شرعية، أو تُبقي القرار بيد الخارج، أو تُقصي المكونات الوطنية الحيّة، ليست تسوية، بل استسلام مقنّع.

ومشروع النهضة يجب أن يكون واضحًا في رفضها، دون أن يقع في الغلوّ أو العدمية.

خامسًا: التوازن المطلوب: مناورات دون انكسار

المشروع السيادي لا ينجح عبر المواجهة العمياء، ولا عبر الخضوع، بل عبر مناورة استراتيجية مسؤولة تُراكم الإنجازات، وتدير التحديات، وتراهن على الزمن والوعي والبناء المتدرج.

وفي هذا الإطار، تُصبح الواقعية الأخلاقية منهجًا للتحرك لا للعجز، ومظلة للحكمة لا للرضوخ، وأداة للتقدم لا للجمود.

خاتمة الفصل

بين تسويات الخارج العقيمة، والطوباويات الحالمة، تبرز الواقعية الأخلاقية كخيار ثالث حقيقي، قادر على الحفاظ على جوهر المشروع الوطني، دون التورط في شعارات لا تتحقق، أو تنازلات لا تُغتفر.

إنها المنهج الضروري لمشروع النهضة: لا استسلام، ولا إنكار، بل فعل تاريخي وطني يصنع الممكن، ويصونه من التحريف، ويقوده إلى الفعل السيادي الكامل.