القسم الحادي عشر – الباب الرابع
الفصل الثالث والعشرون معركة الرواية الدولية
من شيطنة الثورة إلى إعادة التعريف
مقدمة تمهيدية
في الصراعات الكبرى، لا يُحسم النصر بالسلاح وحده، بل بالرواية.
فالرواية ليست فقط سردًا لما جرى، بل هي تحديدٌ لما يُعتبر شرعيًا، وما يُرى عادلًا، ومن يُمنَح الحق ومن يُجرَّد منه.
وفي الحالة السورية، لم تخسر الثورة فقط في ميادين القتال، بل تعرّضت لحرب شرسة على المعنى، تم فيها شيطنتها، وتشويه دوافعها، وتفكيك خطابها، وتحويلها من فعل تحرّري إلى مادة إدانة.
ومن هنا، فإن مشروع النهضة لا يكتمل دون خوض معركة الرواية الدولية، بوصفها معركة وجود، وكرامة، واسترداد للشرعية المنهوبة، وللمعنى الذي سُرِق من دماء الناس وأحلامهم.
أولًا: تفكيك الرواية السائدة: كيف شُوّهت الثورة؟
تم تشويه الثورة السورية عبر روايات متداخلة:
الرواية الرسمية للنظام:
اختزلت الثورة في “مؤامرة كونية”،
وصوّرت المطالب بالكرامة والحرية على أنها إرهاب طائفي مسلح،
وسوقت خطابًا أمميًا بأنها تدافع عن “العلمانية والاستقرار” في وجه التطرف.
الرواية الغربية المترددة:
تعاملت مع الثورة كمأساة إنسانية لا كحراك سياسي،
ثم سحبت الاعتراف تدريجيًا حين تشرذمت المعارضة أو غُلب عليها الطابع الجهادي،
واختزلت القضية في “الإرهاب” و”اللجوء” و”إعادة الإعمار” بعيدًا عن أصل المسألة: الحرية والعدالة والسيادة.
روايات بعض المحاور الإقليمية:
وظفت الثورة لصالح أجنداتها، ثم تخلت عنها،
أو حاولت تطويعها لأدوات نفوذها الطائفي أو الجيوسياسي،
مما ساهم في تقويض صورتها أمام الرأي العام العالمي.
ثانيًا: لماذا معركة الرواية أساسية في مشروع النهضة؟
الرواية ليست مجرد دعاية، بل:
أداة لإعادة تثبيت الشرعية الوطنية أمام العالم،
وسيلة لاستعادة الاعتراف الدولي بالدولة الجديدة ومؤسساتها،
سلاح سياسي ودبلوماسي لإبطال سرديات النظام والاحتلالات وأدوات التشويه،
شرط ضروري لأي انخراط دولي في عملية سياسية أو تنموية قائمة على الاحترام المتبادل.
ثالثًا: أركان الرواية السيادية الجديدة
الانطلاق من الشعب لا من النظام ولا من المعارضة التقليدية:
أن الثورة كانت فعلًا جمعيًا سلميًا عميقًا ضد بنية الاستبداد.
أن المطالب كانت واضحة: الحرية، الكرامة، السيادة، العدالة.
أن الانحرافات لاحقة وليست أصلية، ونتيجة للخذلان الدولي لا طبيعة الحراك.
أن النظام فقد شرعيته الوطنية والدولية عبر جرائم موثقة ضد الإنسانية.
أن ما جرى لم يكن حربًا أهلية بل سحقًا منهجيًا لإرادة شعبية.
أن سوريا لم تُدمَّر فقط من النظام بل من الاحتلالات، ومن المشاريع الإقليمية المتنازعة على جسدها.
أن النهضة ليست تمردًا جديدًا بل استكمال لمسار وطني حُرّ لم يكتمل.
رابعًا:أدوات استعادة الرواية في المحافل الدولية
إنتاج خطاب حقوقي–سياسي جديد بلغة القانون الدولي.
تشكيل فرق بحث وتوثيق وسرد تشتغل على أرشفة الثورة بطريقة منهجية لا انفعالية.
بناء أدوات إعلامية استراتيجية تُعيد تعريف القضية السورية للجمهور الدولي.
إعداد ملفات متكاملة تُقدَّم للبرلمانات، والمحاكم الدولية، ومراكز القرار السياسي والأكاديمي والإعلامي.
تأطير النخب السورية القادرة على التعبير عن هذه الرواية بثقة ومهنية لا بلغة الضحية وحدها.
خامسًا:رواية النهضة: ليست رواية الثورة فقط، بل رواية سوريا الجديدة
معركة الرواية لا تتوقف عند الدفاع عن الماضي، بل:
تنتج سردية جديدة لسوريا الدولة،
تُعيد تعريف الوطنية كمشروع جامع لا كامتياز سلطوي،
تُظهر سوريا بوصفها دولة ذات مشروع أخلاقي وسياسي مستقل،
تُدمج الذاكرة بالمعنى السياسي الراهن، لتكون الرواية جسرًا بين ما جرى وما يجب أن يكون.
خاتمة الفصل
إن استعادة المعنى ليست ترفًا بل شرطًا للكرامة،
وإن معركة الرواية ليست خلفية للدبلوماسية، بل مقدمة لأي سيادة، وشرط لأي اعتراف، ولبنة لأي عقد دولي مستقبلي.
وسوريا، التي أُخرجت من التاريخ عبر القمع والتشويه، لا تعود إليه إلا حين تملك سرديتها، وتُعرّف نفسها بنفسها، وتقول للعالم:
نحن لسنا ضحايا فقط، ولا أدوات، بل أمة نهضت من جراحها، وتكتب الآن تاريخها بلسانها، وبلحظة سيادية لا تُستعار، بل تُنتَزع.“