القسم الحادي عشر – الباب الثاني
الفصل العاشر تحرير العقد الاجتماعي
من النصوص المغلقة إلى الإرادة الحرة
مقدمة تمهيدية
العقد الاجتماعي ليس مجرد نص دستوري يُكتب في لحظة تأسيس، بل هو التعبير العميق عن العلاقة بين المجتمع والدولة، بين السلطة والحقوق، بين السيادة والشرعية.
وفي الحالة السورية، لم يكن هناك عقد اجتماعي حقيقي قط، بل منظومات قانونية مغلقة صيغت لتمكين السلطة لا لضمان الكرامة، ولتكريس الطاعة لا لتحقيق التشارك.
ومن هنا، تأتي مهمة تحرير العقد الاجتماعي، لا بصياغة نص جديد فحسب، بل ببناء إرادة وطنية حرّة تجعل من العقد التأسيسي انعكاسًا فعليًا لمجتمع حرّ، واعٍ، ومالك لقراره.
أولًا – العقد الاجتماعي المغلق: صيغة السلطة دون الشعب
عبر التاريخ السوري الحديث، لم يكن العقد الاجتماعي سوى واجهة قانونية لشرعية فوقية:
في عهد البعث، أصبح الدستور أداة لتكريس الحزب الواحد وصلاحيات الرئيس المطلقة.
الحقوق الدستورية كانت مُقيّدة بقوانين استثنائية تُفرّغها من مضمونها.
العلاقة بين المواطن والدولة لم تُصَغ كعلاقة حقوق وواجبات، بل كولاء وخضوع.
تغييب التعدد، إقصاء المجتمع، احتكار السيادة، جعلت العقد الاجتماعي وثيقة مغلقة تصنعها السلطة وتفرضها على المجتمع.
والنتيجة كانت سقوط الثقة الكاملة بين السوريين ومؤسساتهم، وتحلّل المعنى نفسه للعقد السياسي.
ثانيًا – مفهوم التحرير: من الإلزام القسري إلى الرضا التشاركي
تحرير العقد الاجتماعي لا يعني تمزيق النصوص فقط، بل تحرير الإرادة الجماعية من القهر، وتمكينها من صياغة علاقة متوازنة وعادلة مع الدولة.
وهذا يعني:
أن يكون العقد تعبيرًا عن توافق مجتمعي واسع، لا عن صفقة بين النخب.
أن يتضمّن ضمانات حقيقية للمواطنة، لا وعودًا معلّقة.
أن يُؤسَّس على قاعدة السيادة الشعبية، لا على تفويض مطلق للحاكم.
أن يُقِرّ بالتعدد، ويدير التنوع، دون أن يُشرعنه كأداة للانقسام.
ثالثًا – الإرادة الحرة كمصدر للعقد الجديد
الشرط الأول لتحرير العقد هو إنتاج الإرادة الوطنية الحرة، والتي لا يمكن بناؤها في ظل الاحتلال، أو القمع، أو الإقصاء.
ولهذا، يجب أن يسبق العقد:
تحرر القرار السياسي.
انفتاح المجال العام.
تمثيل عادل لمكونات المجتمع.
اعتراف متبادل بين الفاعلين الوطنيين.
عملية تأسيسية شفافة ومفتوحة، لا فوقية أو مغلقة.
فقط حين يُولد العقد من لحظة حرية حقيقية، يكون معبّرًا عن الشعب، لا عن إرادة نخبوية طارئة.
رابعًا – عناصر العقد الجديد: الحقوق، التعدد، السيادة، التمثيل
لأجل بناء عقد اجتماعي جديد يحمل مشروع النهضة، يجب أن يتضمّن العناصر التالية:
الكرامة الفردية بوصفها مركزية: لا قيمة لأي نص دون ضمان حرمة الإنسان وحقوقه غير القابلة للتفاوض.
الاعتراف بالتعدد السوري: دينيًا، إثنيًا، ثقافيًا، دون تطييف أو فدرلة، بل على قاعدة المواطنة المتساوية.
التمثيل الفعلي في السلطة والثروة: لا بالنسب أو المحاصصة، بل بمبدأ العدالة والشفافية.
السيادة غير القابلة للتفويض: لا حاكم فوق الدولة، ولا جهة خارجها تتحكم في مسارها.
آليات ديمقراطية مستدامة: لتعديل العقد، أو مراجعته، أو تقييمه، حفاظًا على ديناميكيته التاريخية.
خامسًا – من النص الجامد إلى الحقل السيادي الحيّ
العقد الاجتماعي ليس وثيقة نهائية تُعلّق على الجدران، بل عملية مستمرة من الحوار، وإعادة التفاوض، والمراقبة، والتطوير.
ولذلك، يجب أن يُبنى على أدوات تمكن المجتمع من حماية العقد، لا فقط الالتزام به، منها:
القضاء الدستوري المستقل.
الإعلام الحرّ.
الفضاء المدني المفتوح.
التعليم السياسي.
الثقافة الدستورية اليومية التي تجعل العقد جزءًا من الوعي، لا من الخطاب الرسمي.
خاتمة الفصل
إن تحرير العقد الاجتماعي هو جوهر مشروع النهضة، لأنه الجسر بين السيادة النظرية والممارسة الواقعية، ولأنه الإطار الذي يُعرّف ما تعنيه الدولة، وما يحق للمواطن، وما يُلزم السلطة.
وحين يكون العقد تعبيرًا عن الإرادة الحرة، لا يُعبّر فقط عن توافق لحظة، بل يُصبح حجر الأساس لدولة عادلة، متوازنة، سيادية، تحيا من خلال الناس، لا فوقهم، وتصونهم لا تحتقرهم.