web analytics

 الذاكرة الوطنية والعدالة الانتقالية

من توثيق الألم إلى بناء المصالحة

المقدمة:

حين يمر شعبٌ بتجربة حرب داخلية، أو انهيار وطني شامل، لا تكون مهمته الكبرى فقط في وقف العنف وإعادة بناء المؤسسات.

بل تكون، أولًا، في التعامل مع ذاكرته المجروحة:
مع الألم، والظلم، والخيانة، والآمال الضائعة، والبطولات المجهولة، والجراح التي لم تندمل.

في سوريا، تراكمت ذاكرة مثقلة بالدماء والانقسامات:
ذاكرة معسكرات اعتقال، ومجازر جماعية، واغتيالات سياسية، وحصار وتجويع، ودمار طال مدنًا وبلدات كاملة.
ذاكرة تمتد عبر عقود من الاستبداد، ثم انفجرت مع الحرب الأهلية بصور أعنف وأبشع.

بلا معالجة عميقة لهذه الذاكرة، لا يمكن لأي مشروع لبناء سوريا جديدة أن ينجح.

ولهذا، يصبح الارتباط بين بناء الذاكرة الوطنية الحقيقية، وبين إطلاق عدالة انتقالية واعية، أمرًا محوريًا في مشروع النهضة السورية.

أولًا – مفهوم الذاكرة الوطنية

الذاكرة الوطنية ليست مجرد سجل تاريخي أو أرشيف وثائقي.
بل هي:

الهوية الجمعية الحية التي تشكل كيف يرى المواطنون أنفسهم، بلدهم، ماضيهم، ومستقبلهم.

الأرضية التي تبنى عليها مشاعر الانتماء أو الانفصال، الثقة أو الكراهية، الأمل أو اليأس.

إذا كانت الذاكرة مؤسسة على إنكار الألم أو تزويره:

تنشأ دورة كراهية مستدامة.

وتتحول المصالحة إلى كذبة مؤقتة، تنتظر لحظة الانفجار التالية.

وإذا كانت الذاكرة مؤسسة على الاعتراف والشجاعة في مواجهة الحقائق:

يصبح الشفاء الجماعي ممكنًا.

وتُبنى هوية وطنية صلبة قادرة على احتواء تنوع المجتمع وتجديده.

ثانيًا – الذاكرة السورية بين الاستلاب والتشويه

في سوريا، تم التلاعب بالذاكرة الجماعية عبر عدة وسائل:

تزييف التاريخ الرسمي:
الأنظمة المتعاقبة فرضت سرديات دعائية مجتزأة، حذفت وقائع كبرى من الذاكرة العامة أو أعادت تفسيرها قسرًا.

التعتيم على الجرائم:
اختفت حقيقة مذابح، مجازر، اعتقالات جماعية، تهجيرات قسرية، إعدامات ميدانية، تحت صمت رسمي تام.

استغلال الآلام:
تم توظيف بعض المآسي لخلق مظلوميات انتقائية تخدم أطرافًا سياسية أو طائفية معينة، مع إنكار مآسي الآخرين.

الإقصاء الانتقائي:
أهملت معاناة جماعات كاملة، أو اختُزلت إلى “تفاصيل”، مما ضاعف من مشاعر التهميش والنقمة المتبادلة.

النتيجة:

مجتمع بلا سردية مشتركة عن ماضيه.

جماعات متناحرة تحكي قصصًا متناقضة عن الوطن.

ذاكرة ممزقة تمنع أي بناء سلمي للمستقبل.

ثالثًا – العدالة الانتقالية كجسر بين الذاكرة والمصالحة

تعريف العدالة الانتقالية:

ليست فقط محاكمات للجناة.

وليست مجرد تعويضات للضحايا.

بل هي مجموعة عمليات سياسية–اجتماعية–قانونية تهدف إلى التعامل الشامل مع ماضي الانتهاكات، بهدف الانتقال نحو مجتمع ديمقراطي سليم.

أركان العدالة الانتقالية:

الحقيقة:
الكشف الكامل وغير الانتقائي عن الوقائع، مهما كانت صادمة أو مؤلمة.

المساءلة:
محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات بطريقة عادلة ونزيهة.

جبر الضرر:
التعويض المعنوي والمادي للضحايا، والاعتراف الرسمي بمظلوميتهم.

الإصلاح المؤسسي:
تطهير مؤسسات الدولة من الأدوات والقوانين التي سمحت بالانتهاكات.

حفظ الذاكرة:
ضمان عدم نسيان الجرائم لمنع تكرارها مستقبلًا.

رابعًا – مبادئ العدالة الانتقالية الخاصة بالحالة السورية

لكي تكون العدالة الانتقالية في سوريا فاعلة وعادلة، لا بد أن تراعي مبادئ خاصة بالسياق السوري، منها:

  1. الشمول لا الانتقائية:

التعامل مع كل انتهاكات حقوق الإنسان، أياً كان مرتكبوها أو ضحاياها.

لا تمييز بين جريمة ارتكبها النظام وجريمة ارتكبتها ميليشيا معارضة.

  1. الفردية لا الجمعية:

تحميل المسؤوليات بناءً على الفعل الفردي لا على الهوية الجماعية.

رفض منطق العقاب الجماعي على أساس الطائفة أو العرق أو المنطقة.

  1. الحقيقة فوق الحسابات السياسية:

عدم السماح للمصالح السياسية أو التحالفات الإقليمية والدولية بإخفاء الحقائق أو تزييفها.

  1. العدالة restorative لا الانتقامية:

السعي لإصلاح المجتمع وجبر ضرره، لا لإدامة حلقات الثأر والانتقام.

خامسًا – استراتيجيات بناء الذاكرة الوطنية والعدالة الانتقالية

  1. إنشاء هيئة مستقلة للحقيقة والعدالة:

تضم قضاة، ومؤرخين، وحقوقيين، وممثلين عن الضحايا.

تعمل على كشف الجرائم والانتهاكات وتوثيقها بشفافية.

  1. بناء أرشيف وطني للذاكرة:

جمع وتوثيق الشهادات، الصور، الوثائق الرسمية وغير الرسمية.

إنشاء متاحف للذاكرة في المدن الكبرى، تعرض الحقيقة كما هي.

  1. إصلاح التعليم:

إعادة كتابة مناهج التاريخ بطريقة نقدية ومتوازنة، تعترف بكل المظالم، وتحترم التعددية.

  1. إطلاق حملات اعتراف ومصالحة:

تشجيع شخصيات وجماعات على الاعتراف العلني بالانتهاكات التي ارتُكبت باسمها، كخطوة نحو التصالح.

  1. حماية الفضاء العام من السرديات الطائفية:

منع استخدام الإعلام والتعليم والمؤسسات العامة في بث روايات تحريضية أو تبريرية للجرائم.

سادسًا – التحديات الكبرى أمام المشروع

مقاومة الأطراف التي تخشى انكشاف تورطها بالجرائم.

محاولة بعض الجماعات إعادة تفسير الماضي لصالحها.

خطر الانتقام الشخصي بدل العدالة المؤسسية.

صعوبة تحقيق توازن بين الحاجة للعدالة والحاجة للحفاظ على السلم الأهلي.

الخاتمة:

إن الذاكرة الوطنية ليست مجرد كتاب تاريخ نقرؤه ثم ننساه،
بل هي البنية الداخلية التي تحدد إلى أين نمضي، وكيف نبني، وعلى أي أسس نتصالح.

وإن العدالة الانتقالية ليست ترفًا حقوقيًا، بل شرط وجودي لبناء وطن جديد.

فبلا كشف الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين، وجبر ضرر الضحايا، وحفظ الذاكرة،
سنظل نحمل في وعينا بذور الحروب القادمة.

مشروع النهضة السورية لا يقوم فقط على بناء مؤسسات سياسية واقتصادية جديدة،
بل يقوم أولًا على تطهير الذاكرة، وتحرير الحاضر من أسر الماضي المشوّه،
لكي تولد سوريا جديدة، حرة، عادلة، قادرة على الصمود والنمو.