web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الثالث

الفصل الخامس عشر الردع الاستراتيجي الوطني

بناء منعة الدولة دون عدوانية

مقدمة تمهيدية

ليس الهدف من بناء القوة هو إشعال الحروب، بل منعها.

وليس الردع الاستراتيجي دليلًا على النزعة الهجومية، بل على وعي الدولة بمسؤولياتها تجاه نفسها وشعبها وسيادتها.
وفي الحالة السورية، حيث تَشابكت التهديدات الداخلية والخارجية، وتَفكّكت أدوات القوة التقليدية، يصبح مشروع بناء ردع استراتيجي وطني ضرورة وجودية، لا رفاهية نظرية، على أن يكون هذا الردع وظيفة سيادية دفاعية، لا أداة استعراض أو تصدير للعنف

أولًا: مفارقة الضعف والتهديد: حين تُغري الهشاشة بالعدوان

عاشت سوريا، طوال عقد وأكثر، لحظة انكشاف استراتيجي جعلت البلاد عرضة لكل أنواع التدخل:

تدخلات عسكرية مباشرة من دول إقليمية وعالمية.

تحكم غير معلن بقرارات الحرب والسلم.

استباحة المجال الجوي دون قدرة على الرد.

عمليات اغتيال، وضربات نوعية، وتسللات استخبارية.

وتحوّل بعض المناطق إلى قواعد عمليات لقوى خارجية.

كل ذلك لم يكن نتيجة الحرب فقط، بل نتيجة غياب منظومة ردع حقيقية تحفظ سيادة الدولة وتُعاقب كل محاولة اختراق أو إذلال.

ثانيًا: الردع كقيمة سيادية لا أداة تسلّط

الردع في المنظور السيادي ليس مرادفًا للهجوم، بل هو:

قدرة الدولة على منع العدوان من خلال امتلاك القدرة على الردّ الفاعل.

توازن في القوة يجعل تكلفة الاعتداء على الدولة أعلى من جدواه.

شبكة حماية تشتغل قبل اندلاع الخطر، لا بعده.

رسالة دائمة بأن السيادة غير قابلة للانتهاك دون ثمن.

وبالتالي، الردع ليس عملًا عسكريًا فحسب، بل منظومة سيادية نفسية ومعنوية واستراتيجية.

ثالثًا:  مقومات الردع الوطني في مشروع النهضة

يتطلب بناء الردع الوطني امتلاك منظومة شاملة لا تقوم فقط على:

قوة عسكرية دفاعية متقدمة، مدربة، مرنة، مجهّزة، خاضعة للقيادة الوطنية.

منظومة استخبارات وقائية، تتوقع التهديد، وتُجهض الاختراق قبل أن يحدث.

إعلام وطني سيادي، يصوغ الرواية ويردّ على التشويه ويُثبّت الثقة.

اقتصاد مقاوم، لا يمكن خنقه بسهولة، ويملك أدوات الاستمرار في وجه العقوبات والابتزاز.

شبكة دبلوماسية متماسكة، تُراكم الدعم، وتُقنع الحلفاء بأن الاعتداء على سوريا ليس بلا تكلفة.

إن الردع هنا ليس معتمدًا على الرعب، بل على توازن منضبط وواعٍ يعكس إرادة الدولة لا رغبتها في المواجهة.

رابعًا:  الردع من دون عدوانية: التوازن الأخلاقي في إدارة القوة

الردع لا يعني التهوّر، ولا يُبرر تجاوز القوانين، ولا يُستخدم لقمع الداخل أو ابتزاز الخارج.
فالردع الأخلاقي يجب أن يُبنى على:

التمييز بين الحماية والهيمنة.

وضوح المعايير والحدود.

احترام القانون الدولي مع التمسك الكامل بالحق في الدفاع.

عدم تحويل الردع إلى ذريعة لتضخيم الدولة الأمنية أو عسكرة المجال العام.

إشراك المؤسسات الرقابية والمجتمعية في ضبط استخدام القوة.

إنه ردع سيادي متزن، يحمي ولا يُهدد، يردّ ولا يبدأ، يثبّت السلام الحقيقي لا الهش.

خامسًا: آليات التفعيل: من الجاهزية إلى الرسالة

لكي يكون الردع فاعلًا، لا يكفي أن توجد القوة، بل يجب:

أن تكون ظاهرة بما يكفي لإفهام الخصم.

أن تكون مشروعة بما يكفي لتنال الدعم الشعبي والدولي.

أن تكون دقيقة، غير عشوائية، وغير قابلة للاختراق.

أن تُبنى على خطاب سياسي يوضح أن الردع ليس عدوانًا بل حماية للسيادة وللسلام.

والردع الفعّال لا يُعلن عن نفسه دائمًا، بل يَظهر في نتائج الواقع: كلما كفّ العدو عن الاقتراب، كلما كان الردع ناجحًا.

خاتمة الفصل

إن مشروع الردع الاستراتيجي ليس عسكرة للنهضة، بل درعها الواقعي في عالم مضطرب، وهو تعبير عن حق الدولة في الحياة دون تهديد، وفي القرار دون إذلال، وفي السيادة دون اختراق.

فإذا كان السلام ثمرة توازن، فإن النهضة لا تنضج في فراغ، بل تحت مظلة من القوة الهادئة، الحازمة، العادلة، التي تعرف متى تُظهرها، ومتى تكتفي بمجرد وجودها.