الرؤية الفلسفية للنهضة
تعريف النهضة في هذا المشروع
ليست النهضة، في مشروعنا، وعودًا تنموية أو تحسينًا في مستوى المعيشة. وليست خطة إنقاذ ظرفية، ولا إعادة إعمار تقنيًا لجغرافيا مدمرة. النهضة، كما نراها، هي تحوّل وجودي ومعرفي في بنية الدولة والمجتمع والوعي. إنها استعادة للمعنى، قبل استعادة الخدمات؛ تحرير للإنسان، قبل ترميم الحجر؛ تأسيس لوعي سيادي مستقل، لا إعادة تزيين لقالب سلطوي منهار.
النهضة هنا ليست برنامجًا سياسيًا، بل فلسفة تأسيسية كاملة، تعيد تعريف الدولة، والمواطنة، والمقدس، والسيادة، والعلاقة بين الإنسان والسلطة. هي رفض للاستعارة الفكرية من الخارج، كما هي رفض للاستبداد من الداخل. وهي فوق ذلك كله، إعلان قاطع بأن الإنسان في سوريا لن يُعاد توظيفه كمجرد أداة تعبئة أو ضحية، بل هو الغاية والمصدر والفاعل الأساسي في مشروع بناء الدولة.
الإنسان كجوهر السيادة والمعنى
الدولة، في هذا المشروع، لا تُبنى على الخوف، ولا تُمنح من فوق، ولا تُمنطق عبر الضرورة، بل تبدأ من الفرد. الفرد الحر، العاقل، المسؤول، هو مصدر السيادة، لا النص المقدس، ولا الزعيم، ولا الطائفة، ولا الثورة في حدّ ذاتها. فالسيادة ليست سلطة تعلو على الناس، بل علاقة تعاقدية منبثقة عن إرادتهم الحرة، وتستمد شرعيتها من وعيهم لا من إذعانهم.
في اللحظة التي يُختزل فيها الإنسان إلى تابع، أو مُستَتبَع، تُهدم الدولة وتُلغى النهضة. لذلك فإننا نرفض كل المشاريع التي تجعل من السلطة مرجعية فوق الفرد، سواء ألبست لباس الدين، أو القومية، أو النخبوية، أو العسكرية. الإنسان هو المعنى. وكل ما يتجاوزه أو يصادره أو يسحقه، هو نقيض النهضة.
المعرفة كأداة تحرر وبناء
لا يمكن لأي مشروع نهضوي أن يُبنى على الجهل، أو الخرافة، أو تغييب العقل، أو مصادرة السؤال. المعرفة هي حجر الأساس للوعي، والوعي هو شرط الحرية، والحرية هي أساس الدولة. في سوريا، تمّ اغتيال المعرفة لعقود: بالتجهيل، بالتقديس، بالرقابة، بالتحريف، وباحتكار الخطاب. وبهذا الاغتيال، تمّ استعباد العقل، وتسليع الإنسان، وتعطيل الفعل المجتمعي.
مشروع النهضة يبدأ من هنا: استعادة العقل كساحة سيادة. تحرير التعليم من التلقين، وتحرير الخطاب الديني من التوظيف، وتحرير الذاكرة من الأساطير السياسية، وتحرير الإعلام من وظيفة التجهيل. فالوعي الذي لا يستند إلى معرفة متحررة، سيُنتج ثورة تنقلب إلى غلبة، وسيُعيد إنتاج الاستبداد في ثوب جديد.
استعادة المعنى والهوية الوطنية
حين تفقد المجتمعات المعنى، تفقد بوصلتها. وحين تُختزل الهوية في مكوناتها الفرعية (الطائفة، القبيلة، الحزب، المنطقة)، تنفصل عن الذات وتُختطف لحساب الآخرين. ما نراه اليوم في سوريا ليس تعددية، بل تشظّيًا ناتجًا عن غياب مشروع وطني يُعيد تعريف “نحن” السورية.
النهضة ليست فقط بناءً سياسيًا، بل أيضًا فعل استعادة للمعنى: معنى أن نكون سوريين بلا وصاية، بلا خوف، بلا إقصاء، بلا عقد دفينة. نحن لا نريد وطنًا موحّدًا قسرًا، ولا هويات منفصلة فيدراليًا، بل نريد هوية وطنية مرنة، جامعة، نابعة من التاريخ والمصير واللغة والتجربة، لا من إملاءات الجغرافيا أو الانتماء العصبوي.
إن استعادة المعنى تعني أن الوطن ليس خندقًا، ولا معسكرًا، ولا خريطة تقاسم، بل فضاء تشاركي حي، تُبنى فيه الروابط بالاختيار والعدالة والانتماء إلى القيم الجامعة لا إلى الكيانات المغلقة.
النهضة: من الفكرة إلى المصير
النهضة، كما نراها، ليست مشروع إصلاح من داخل البنية، ولا محاولة تجميل لحطام السلطة، بل هي فعل تأسيسي كامل يُعيد طرح السؤال الأول: لماذا نُقيم دولة؟ كيف نُعرّف الإنسان؟ ما معنى السيادة؟ من يملك الحق؟ وكيف تُبنى الشرعية؟
إنها ليست برنامجًا سياسيًا، بل استعادة للمسألة الوجودية / السياسية التي جُرّد منها السوريون طويلًا: من نحن؟ ولمن تكون هذه الأرض؟ وبأي وعي نُقيم العدل فيها؟ وبأي منظومة قِيَمية نعيد بناء الذات المجتمعية؟ إنها فعل قطيعة مع منطق الغلبة، لا مع التاريخ؛ فعل تحرير للعقل، لا انتقام من السلطة؛ وفعل إحياء لوطن لم يولد بعد، لكنه يستحق أن يولد.
مشروع النهضة لا يبدأ من رأس الدولة، بل من جذور الإنسان؛ لا من الدستور وحده، بل من المعنى الذي يؤسّسه؛ لا من موازين القوة، بل من موازين الوعي؛ لا من المفاوضات، بل من لحظة المصارحة مع الذات.
ومن هنا، فإن النهضة ليست هدفًا نلتحق به، بل وعيًا ننتجه، ومسارًا نخطّه، ومسؤولية لا يمكن لأي قوة أو نخبة أو سلطة أن تحتكرها وحدها. إنها حق جماعي، وفعل تحوّلي، ومسؤولية تاريخية تبدأ من استعادة الكرامة، ولا تنتهي دون استعادة السيادة، بكل معانيها: على الأرض، على القرار، وعلى المعنى.