web analytics
القسم الحاد عشر – الباب الأول

الفصل الخامس فلسفة الدولة السيادية

من السلطة إلى المسؤولية

مقدمة تمهيدية

لا تُبنى الدول السيادية بالجبروت، بل بالمسؤولية، ولا تُقاس قوتها بحجم القمع، بل بقدرتها على تمثيل مجتمعها وخدمته وإدارة مقدراته لصالحه.

وفي ظل التحولات الجذرية التي تشهدها سوريا، تصبح الحاجة ملحّة لإعادة تعريف مفهوم الدولة، وتفكيك العلاقة المرضيّة التي ترسّخت بين السلطة والسيادة، لتأسيس دولة جديدة تقوم على الفعل السيادي المسؤول، لا على منطق الغلبة والاستحواذ.

أولًا: تفكيك نموذج الدولة السلطوية

طوال العقود الماضية، ارتبط مفهوم الدولة في الوعي السوري بالقوة القاهرة، لا بالرعاية والتمثيل.

تحولت الدولة إلى أداة قمع، وسيادةها إلى غطاء للتسلّط، ومؤسساتها إلى واجهات لأجهزة الحكم، ففُصلت عن المجتمع، وفُقِدت الثقة بها، وتحوّلت في نظر أغلب السوريين إلى عبء لا إلى حامٍ.

إن أولى مهمات مشروع النهضة هي تفكيك هذه الصورة، لا لتفريغ الدولة من معناها، بل لإعادة بنائها على قاعدة جديدة: المسؤولية لا الامتياز، الشراكة لا الاحتكار، السيادة لا السلطة المطلقة.

ثانيًا: من السلطة إلى المسؤولية: التأسيس المفاهيمي

الفرق بين الدولة السلطوية والدولة السيادية لا يُختزل في الأسلوب، بل في الفلسفة الكامنة وراءها:

في الأولى، الدولة تفرض ذاتها على الناس.

في الثانية، الدولة تُنشئ نفسها من خلال الناس، وبهم، ولأجلهم.

المسؤولية هنا لا تعني فقط واجب تقديم الخدمات، بل تحمّل كامل الأثر السياسي والأخلاقي للقرار العام، بحيث تكون الدولة مسؤولة أمام المجتمع، لا مُفوَّضة فوقه.

ويترتب على ذلك:

أن السيادة لا تبرّر القمع، بل تحمي الكرامة.

أن الحكم لا يُمنح بوصاية، بل يُفوض بشرعية واضحة ومحدودة.

أن القوة لا تكفي لبناء الدولة، بل يُشترط لها القبول والمساءلة.

ثالثًا: أسس الدولة السيادية في مشروع النهضة

لكي تكون الدولة فاعلة وسيادية، لا بد أن تقوم على مرتكزات واضحة:

العقد الاجتماعي الواضح: لا شرعية من دون عقد جامع يُحدد العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويؤسّس للحقوق والواجبات المتبادلة.

مركزية الكرامة الإنسانية: فالدولة ليست فوق الإنسان، بل أداته في تحقيق الحرية والأمن والتنمية.

الفصل بين السلطات: لا سيادة في ظل سلطة مطلقة، بل عبر توازن سلطوي يضمن الاستقلال والتكامل.

استقلال القرار الوطني: فالدولة لا تكون سيادية إن لم تكن قراراتها نابعة من إرادتها ومصلحتها، لا من التبعية أو الإملاء.

وظيفة الدولة لا امتيازها: أي أن كل منصب ومؤسسة في الدولة يجب أن تُبنى كوظيفة عامة لا كأداة امتلاك أو توريث.

رابعًا: الدولة كضامن لا كخصم

التحول المركزي في هذا النموذج هو النظر إلى الدولة بوصفها الضامن للحقوق، لا مصدر تهديد لها.

ولذلك، يجب أن تتحوّل مؤسسات الدولة من أدوات سيطرة إلى أدوات خدمة، ومن مواقع خوف إلى مساحات أمان، ومن رموز للقوة العمياء إلى رموز لشرعية العدالة والشفافية.

ولن يتم ذلك دون إعادة بناء:

الجهاز الإداري على قواعد الكفاءة والرقابة.

المؤسسة الأمنية على قاعدة حماية المجتمع لا قهره.

السلطة القضائية على قاعدة الاستقلال والعدل لا الانصياع.

المؤسسات التمثيلية على قاعدة الانتخابات الحرة والتمثيل العادل.

خامسًا: الدولة بوصفها الفضاء السيادي للكل

الدولة ليست فريقًا منتصرًا، ولا مذهبًا حاكمًا، ولا طبقة مهيمنة، بل هي الفضاء السيادي الجامع الذي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والكرامة والتمثيل.

وحين تُبنى الدولة بهذه الفلسفة، تصبح السيادة مسؤولية مشتركة، لا ذريعة للاحتكار، ويُعاد وصل المجتمع بمؤسساته لا قهره باسمها.

خاتمة الفصل

إن بناء الدولة السيادية لا يعني فقط استعادة السيطرة على القرار، بل تحويل بنية الدولة من سلطة مغلقة إلى مسؤولية مفتوحة على الناس، ومن احتكار للقوة إلى تنظيم لها، ومن رمز للقمع إلى أداة للتحرر.

هذه الدولة وحدها هي التي تستطيع حمل مشروع النهضة، لأنها تمثّله في جوهره: مشروع تحرر، لا مشروع استبدال سلطة بأخرى.