web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الثالث

الفصل الرابع عشر توازنات القوة وحماية المجال السيادي داخليًا وخارجيًا

مقدمة تمهيدية

لا تكتمل منظومة الأمن القومي إلا بفهم دقيق لتوازنات القوة، ليس فقط في بعدها العسكري، بل في بعدها السيادي الشامل، الذي يربط بين الداخل والخارج، وبين الشرعية والسيطرة، وبين أدوات الردع وقواعد التوازن.

وفي الحالة السورية، حيث تعددت مصادر الخطر، وتشظت مراكز القرار، وتوزعت القوة بين الداخل والخارج، وبين الدولة والمجتمع والفصائل والميليشيات والاحتلالات، يصبح الحديث عن حماية المجال السيادي مرتبطًا بإعادة ضبط توازنات القوة، وفق منطق يحمي السيادة دون تهور، ويمنع الانهيار دون خضوع.

أولًا – الفوضى بعد الحرب: انفراط القوة وتحوّل المجال السيادي إلى ساحة مفتوحة

منذ تفكك السلطة المركزية في سوريا، تحوّل الفضاء السيادي إلى ساحة مباحة، تتحكم بها:

قوى إقليمية ودولية متنازعة.

فصائل عسكرية محلية ذات ولاءات متباينة.

مجموعات اقتصادية–أمنية ذات طابع ميليشيوي.

أجهزة أمنية موازية تعمل بمرجعيات خارجية.

شبكات مخابرات متعددة الجنسيات تتحرك بحرية.

وبات المجال السيادي السوري مفتوحًا على اختراقات متزامنة: عسكرية، استخبارية، اقتصادية، إعلامية، وحتى رمزية، دون وجود مركز وطني قادر على فرض منطق الدولة.

ثانيًا – مفهوم التوازن كأداة سيادية لا كحساب قوة تقليدي

توازنات القوة لا تعني فقط مقارنة عددية بين الجيوش أو الأسلحة، بل تشمل:

القدرة على الإمساك بالقرار المركزي دون تفرد ولا شلل.

التحكم بالحدود والمعابر والمجال الجغرافي والرقمي.

امتلاك مناعة داخلية ضد التحريض والتمزق والتذرر.

تحقيق التوازن بين المكونات الاجتماعية دون تغليب طرف على آخر.

المرونة في إدارة العلاقات الدولية دون ارتهان أو استفزاز.

فالتوازن هنا ليس حالة حيادية، بل أداة لضبط القوة وتحويلها إلى حقل سيادي منظم لا فوضوي، مرن لا هشّ، واقعي لا خاضع.

ثالثًا – بناء التوازن الداخلي: إدارة تعدد مصادر القوة لا نفيها

في سوريا الجديدة، لا يمكن القفز على حقيقة تعدد القوى الفاعلة على الأرض.
لكن المهمة ليست تصفيتها جميعًا بالضرورة، بل إعادة تنظيمها ضمن مرجعية سيادية مشتركة، عبر:

دمج القوى المسلحة في هيكل دفاع وطني موحد، وفق معايير الولاء السيادي والمهنية.

تحييد الأمن عن الأيديولوجيات والمصالح الفئوية.

إعادة بناء الجيش على أسس التمثيل الوطني لا الحزبي أو الطائفي.

منع وجود أي قوة مسلحة خارج سيطرة الدولة الشرعية.

تحقيق توازن سياسي واجتماعي يضمن الشراكة لا الإقصاء، ويُخفف أسباب التمرد.

فلا يمكن بناء الأمن بمجرد تفكيك القوى، بل بإعادة إنتاج القوة في إطار سيادي مشروع وضابط.

رابعًا – التوازن الخارجي: شراكة لا تبعية، استقلال لا عداء

على المستوى الخارجي، يجب إعادة رسم تموضع سوريا في الإقليم والعالم، بناءً على:

رفض أن تكون سوريا ساحة تصفية حسابات أو نقطة ارتكاز لمحاور إقليمية.

بناء شراكات متوازنة متعددة الاتجاهات (عربيًا، إقليميًا، دوليًا)، دون ارتهان لأي جهة.

إدارة العلاقة مع القوى الكبرى بمنطق المصالح المتبادلة لا التفويض السياسي.

إعادة بناء الثقة بسياسة عدم الانحياز الإيجابي: أي ألا نكون طرفًا في صراع، دون أن نكون على هامش العلاقات.

إن التوازن هنا ليس انكفاءً ولا تحديًا أعمى، بل تحصين للمجال السيادي من الاختراق، وضبط لخيارات الدولة ضمن دائرة الاستقلال والمسؤولية.

خامسًا – استعادة مركزية القرار في المجال السيادي

لكي يُحمى المجال السيادي، يجب أن يعود القرار إلى نقطة مركزية فاعلة:

لا ديكتاتورية،

ولا لا–مركزية فوضوية،

بل مركز قرار سيادي يحظى بالشرعية، ويمتلك الأدوات، ويضمن توزيع القوة ضمن إطار الدولة.

وهذا يستلزم:

إصلاح دستوري يُحدد بوضوح صلاحيات أجهزة الدولة.

إدارة أمنية–عسكرية شفافة خاضعة للرقابة.

فصل فعلي بين السلطات يمنع الاستبداد دون تفكيك الدولة.

إشراك المجتمع في مراقبة القوة لا فقط في تلقي أثرها.

خاتمة الفصل

إن حماية المجال السيادي لا تتم بالشعارات ولا بالقوة العمياء، بل بإعادة ضبط توازنات الداخل والخارج ضمن منطق السيادة والمسؤولية والشرعية.

فالدولة لا تكون قوية فقط حين تُرهب، بل حين تُمسك بالمجال، وتُنظم القوة، وتحول السيادة من نص إلى ممارسة.
وهذا هو جوهر الأمن القومي السيادي: أن تبني القوة ضمن عقد وطني، وتمنع تغوّلها باسم الحماية، أو استلابها باسم الشراكة.