دفع باقي الثمن الباهظ لصفقة رفع العقوبات الكاذبة
مرحبا برفع العقوبات، ولكننا نقول ” عندما نرى الصبي نصلي على النبي “، ولم نر من الصبي الا اطرافه، بعد!
ولعلكم تذكرون الندوتين اللتين نظمناهما بمناسبة بدء تطبيق قانون قيصر عام ٢٠١٨، بعد اكثر من خمس سنوات من معرض صور قيصر المرعبة في مبنى الكونغرس، هذه السنوات التي كانت كأنها رخصة للاستمرار سنوات اخرى طويلة بممارسة النهج نفسه دون اي اعتراض عملي من احد ، (تماما كما تعطي الولايات المتحدة اسرائيل الترخيص بعد الترخيص لإنجاز عملية الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني وللشعوب الطامحة لبناء بلدانها) متجاهلة الاصرار على تطبيق قرار مجلس الامن ٢٢٥٤ الموافق عليه من قبل الجميع، في الداخل والخارج، بهدف مجمع عليه وهو الاجهاز على ما تبقى من سورية، وهو الهدف النهائي الذي حققه جميع اعدقاء سورية الدولة والشعب، الداخليين (وعلى رأسهم النظام البائد) والاقليميين والعالميين، وهو ما سمعناه كثيرا منذ البداية يتردد بعبارات (انسوا سورية التي تعرفون، سورية لن تصبح دولة عصرية ديمقراطية، كما تحلمون !) ،
وهذا ما اصبح، وللأسف، واقعا على الارض، وهو تعميم عنوان احدى القصص الاولى للكاتب السوري المبدع زكريا تامر “دمشق الحرائق” ليصبح ” سورية الحرائق “، بالمعنى الشامل للحرائق، للبشر والحجر والشجر والتاريخ والجغرافيا والدولة والمؤسسات والقيم والاخلاق والاقتصاد والسياسة والمجتمع والوعي الوطني والانساني، وبعد ذلك كله يقول نفس المجرمين الفاعلين بهمة وإمكانيات غير محدودة لتحقيق كل ذلك : ” لقد رفعنا عنكم العقوبات التي فرضناها بعد ان أنجزت مهمتها، المضمرة وليس المنصوص عليها، أكثر بكثير مما كنا نتصور، فهنأوا أيها السوريون، فإنكم، والله، لأناس حضاريون وطيبون وتستأهلون كل خير!!!”، وهم إنما كانوا يضمرون تحقيق كل الاهداف المتضمنة فيما بين سطور وخلف أوراق قانون قيصر وجميع العقوبات على سورية،
هذه الاهداف التي جاء وقت اخراجها الى العلن، وكان يجب على السوريين الوطنيين العقلاء تخمينها في قانون قيصر وهم يتداولون نصوصه قبل إصداره، والذين يمكن تحميلهم، الى جانب النظام البائد، مسؤولية ما دفعته سورية وشعبها، أيضا، بقدر ما تحمسوا وتحملوا كل المجهودات والاعباء للفوز بصنع هذه المشنقة لبلدهم، دولة ومواطنين، وحاضرا ومستقبلا، وذلك، (كما قلت في مقال لي مؤخرا بعنوان “قانون قيصر ما بين اصداره والغائه”)، وفي الندوتين الكبيرتين المذكورتين، وفي المقال الطويل الذي نشرته على صفحتي، آنذاك، والذي كان منطلقا لتنظيم الندوتين، (الاولى، من قبل “اللقاء السوري ” بدبي، والتي إدارتها الاعلامية نسرين طرابلسي، و الثانية، من قبل” راديو العرب في امريكا” والتي إدارتها الاعلامية ليلى الحسيني)، واللتان استضافتا عددا من أبرز الوجوه السورية المعارضة الناشطة، وكانوا جميعا في الندوتين من مؤيدي قانون قيصر وعقوباته بشدة وبدون أي تحفظ ، بحجة ان القانون ينص حرفيا على معاقبة النظام وجميع مجرميه، حتى إسقاطه، وهو الذي وافقتهم عليه، أخذا بالاعتبار الصياغة الحرفية للقانون والعقوبات الواردة فيه، الذي اتخذ شكل قانون أمريكي وطني بإلحاقه بقانون الميزانية، ولذلك لا يستطيع الرئيس الأمريكي الغاءه بدون التصويت على الغائه في الكونغرس، ولهذا ثمن هو الاغلى المطلوب من سورية !.
وكنت في النقاش في الندوتين اختلف اختلافا جوهريا قاطعا مع جميع مؤيدي والعاملين بهمة عالية على اصدار القانون، مدعما موقفي بان اغفال الهدف المضمر لمصدري القانون، وانطلاقا من المعرفة العميقة بطبيعتهم وتاريخهم، وهو عدم الالتزام بتطبيق النص الحرفي للقانون وعقوباته، وانما تحقيق عكس مضمونه فعليا، متمثلا بالآثار الهائلة البالغة السلبية على الشعب السوري، وزيادة افقاره وبؤسه واضطهاده وتدمير دولته ومؤسساتها بالكامل، وليس النظام المجرم، وتمكين المجرمين المستهدفين بالنص من الامعان في أجرامهم وفسادهم دون ان تهتز لهم شعرة واحدة، بينما يصل بلدهم وشعبهم الى الانمحاق، واعطاء المرتكبين فرصة للاستمرار بالتنصل من المسؤولية عن ذلك وتحويلها للمتآمرين مصدري العقوبات على سورية، المتحالفين معهم ضمنيا وموضوعيا.
وبعد نقاشات طويلة قلت ل (خصومي ” الرفاق وجميع المناضلين ” من اجل اصدار القانون): الايام القادمة، القريبة جدا، بيننا، وسيظهر الصح والخطأ!
ولم تمض أشهر حتى بدأوا، مع ظهور النتائج الفعلية، يقرون بصحة ما قلت، وان القانون والعقوبات كانوا هدية هائلة للمجرمين، ولكن، بعد ماذا؟ بعد ان دفعت سورية والشعب السوري إثمانا باهظة جدا، وبالأخص مع تصاعد إجرام وفساد السلطة دون ان تطالها ورجالها اي عقوبات من تلك المنصوص عليها في القانون!
هكذا كانت سورية ضحية، ليس للأعداء، المعروفين، فقط، بل ولسوء نية، وسذاجة وسطحية وانتهازية ورخص، وغباء ومحدودية تفكير “اصدقاء الشعب السوري”!
وخلاصة القول: الان بدا دفع الحساب المضمر، غير المنصوص عليه، الذي تحدثت عنه آنذاك، وهو بالإضافة الى الإنجاز الكامل للكارثة السورية، الذي اصبح واقعا، الآن، لا يجادل، بدأ الآن، تحت ضجيج اهازيج الغاء العقوبات، دفع سيادة سورية ووحدتها ومقدراتها الظاهرة والباطنة، وتحررها الكامل، اي مستقبلها كله، بعد حاضرها المأساوي، وتدمير اخر سلاح يمكن ان تدافع به عن ارضها وشعبها، وكل ذلك ثمنا ل”رفع العقوبات” المدروسة جيدا من اجل هذه الغايات كلها، مقابل ما يسمى ” رفع العقوبات “، والذي لن يحصل، كما هو مطلوب، ابدا، بينما الأثمان ستدفع بالكامل، سلفا، وأكثر مما يقتضي الامر، بكثير، مع اعتقادنا الصارم، منذ البداية، بعدم شرعية اي عقوبات تفرضها دولة على دولة اخرى، وانما هذا اختصاص “المجتمع الدولي”، اي الأمم المتحدة، التي، بسبب عجزها عن ادارة العالم باتجاه السلام والتنمية والديمقراطية، وحقوق الانسان، كما ينص ميثاقها وقراراتها، مثل ” قرارات الالفية “التي اتخذها رؤساء العالم عام ٢٠٠٠ و٢٠١٥، بينما ازدادت شراسة أعداء الميثاق وهذه القرارات من المهيمنين على النظام الدولي، مما يؤكد على الحاجة الماسة لإصلاح الامم المتحدة، والا فان مصير البشرية سيبقى رهن سيادة الفوضى والحروب واستمرار شريعة الغاب، حتى الانقراض!
الدكتور عارف دليلة
(مفكر اقتصادي وسياسي سوري)
من مؤلفاته
- كتاب «نظرية القيمة» حلب 1978
- كتاب «بحث في الاقتصاد السياسي للتقدم والتخلف والنظام الاقتصادي العالمي»