القسم الحادي عشر – الباب الثاني
الفصل الثامن استعادة المجال العام
من القمع إلى المساحة العامة الحرة
مقدمة تمهيدية
في كل نهضة حقيقية، لا تُبنى السياسة فقط في مكاتب المسؤولين أو قاعات التشريع، بل في المجال العام حيث يلتقي المواطنون ويتفاعلون ويتجادلون وينتجون المعنى المشترك للحياة العامة.
لكنّ هذا المجال في سوريا قد أُخضع للقمع والمصادرة طويلًا، وتم تحويله إلى فراغ خاضع، لا فضاءً حيًا.
ومن هنا، لا يمكن للنهضة أن تتحقق ما لم يُستعد المجال العام بوصفه ركنًا سياديًا لا مكمّلًا هامشيًا، وساحةً للمواطنة لا مسرحًا للمراقبة.
أولًا: المجال العام بين التدمير الممنهج والانكماش الجماعي
في ظل النظام الاستبدادي، لم يكن المجال العام موضعًا للحوار، بل هدفًا للمراقبة والضبط، فتمت محاصرته عبر:
القوانين القمعية (كقانون الطوارئ والتجمعات).
السيطرة على الإعلام والتعليم والنقابات.
اختراق المجتمع المدني وتحويله إلى واجهات أمنية.
قمع أي مبادرة حرة بوصفها تهديدًا للأمن.
تهميش الفضاء الرقمي أو مراقبته وتحريفه.
وهكذا، جرى تفريغ المجتمع من قدرته على التفاعل مع ذاته، وتحويل المواطن إلى كائن منزوع الصوت، يُراقَب لا يُخاطَب، ويُحمَل لا يُشارك.
ثانيًا: أهمية المجال العام في المشروع النهضوي
لا يمكن لأي مشروع سيادي أن يُترجم إلى واقع دون مجال عام مفتوح وحرّ، لأن:
المجال العام هو ميدان التعبير عن الإرادة الجمعية.
وهو الضامن الأول لشرعية أي سلطة عبر الرقابة الشعبية.
وهو الذي يسمح بتكوين الرأي العام وصناعة الوعي الجمعي.
وهو الفضاء الذي تُنقّح فيه الأفكار، وتُختبر فيه الخطابات، وتُصاغ فيه الاتجاهات السياسية.
إنه ليس ترفًا مدنيًا، بل عنصر بنيوي في أي عملية تحول سياسي واجتماعي.
ثالثًا: شروط استعادة المجال العام
لكي يعود المجال العام إلى الحياة، لا بد من تفكيك أدوات خنقه وبناء حواضنه الجديدة، عبر:
ضمان حرية التعبير والتجمع والتنظيم، دستورًا وممارسة.
إعادة الاعتبار للنقابات والاتحادات والمنظمات المجتمعية كمؤسسات مستقلة لا تابعة.
تأمين فضاءات فيزيائية ورقمية آمنة للتعبير والمشاركة.
إصلاح البيئة القانونية والإعلامية بما يسمح بالتعدد دون تحريض، والاختلاف دون تكفير.
فصل المجال العام عن هيمنة الدولة والأجهزة، وتحويله إلى ساحة للمجتمع لا لمندوبي السلطة.
رابعًا: المجال العام كرافعة للمواطنة والسيادة
المجال العام لا يكتفي بإنتاج الحوار، بل يُعيد تشكيل الهوية الوطنية المشتركة.
فهو المكان الذي يتعارف فيه المختلفون، ويتقاطع فيه المتباعدون، وتُنتج فيه ثقافة العيش معًا.
ومن هنا، فإن استعادته ليست مطلبًا ليبراليًا فقط، بل ضرورة سيادية لخلق مجتمع سياسي حيّ، قادر على حماية ذاته من الاستقطاب والتذرر والخضوع.
فلا مواطنة دون مجال عام، ولا سيادة دون مجتمع له صوت.
خامسًا: الآليات العملية لتحرير المجال العام
ضمن مشروع النهضة، تُطرح آليات محددة لاستعادة المجال العام بشكل عملي، ومنها:
إلغاء كافة القوانين المقيّدة لحرية التعبير والتجمع.
إنشاء مجالس محلية ومراكز مجتمعية مستقلة تتيح الحوار على مستوى المناطق.
دعم الإعلام المجتمعي المستقل وتحرير البث العام من التوجيه الرسمي.
فتح المسار الرقمي كمنصة نقاش وسياسة ومساءلة، مع ضمان الحق في الخصوصية وعدم التتبع.
تشجيع النقاش العام في المدارس والجامعات بوصفه جزءًا من التربية الوطنية.
خاتمة الفصل
إن استعادة المجال العام ليست فقط مسألة حقوق، بل مسألة سيادة.
ففي بلد صودرت فيه السياسة، واحتُكر فيه الصوت، لا يمكن بناء أي شرعية أو مشاركة دون تحرير المجال الذي تنمو فيه الإرادة العامة وتتحول إلى فعل.
ولهذا، فإن النهضة لا يمكن أن تبدأ خلف الأبواب المغلقة، بل في فضاء عام حر، يشهد الولادة الجديدة للسياسة، والمجتمع، والمصير المشترك..