القسم الحادي عشر – الباب الرابع
الفصل الحادي والعشرون العلاقات الإقليمية والسيادة الوطنية شراكة لا وصاية
مقدمة تمهيدية
في منطقة مضطربة كالمشرق العربي، لا تكون العلاقات الإقليمية مسألة دبلوماسية فقط، بل مكونًا مركزيًا في معادلة السيادة.
وسوريا، التي كانت تاريخيًا قلب التوازنات الإقليمية، تحوّلت خلال العقدين الأخيرين إلى ساحة للصراعات الإقليمية، بدل أن تكون شريكًا في إدارتها، وتعرضت سيادتها إلى استباحة مباشرة من دول الجوار أو القوى المتحالفة معها.
ومن هنا، لا يمكن الحديث عن دولة سورية سيادية دون إعادة بناء العلاقات الإقليمية على قاعدة جديدة: الشراكة المتوازنة، لا الوصاية المقنّعة، ولا العزلة العدائية.
أولًا – المشهد الإقليمي في العلاقة مع سوريا: من الجوار إلى النفوذ
طوال سنوات الأزمة، تعاملت أغلب القوى الإقليمية مع سوريا بوصفها:
ملفًا أمنيًا لا دولة ذات سيادة،
أداة في صراعاتها الداخلية أو التوسعية،
حديقة خلفية يُعاد تشكيلها حسب موازين القوى والقلق القومي أو الطائفي أو الاستراتيجي،
ساحة مفتوحة لتصفية حسابات أو فرض مشاريع هيمنة دائمة.
وهكذا، سقطت سوريا في خريطة النفوذ:
تركيا شمالًا، إيران شرقًا، إسرائيل جنوبًا، روسيا غربًا، وكل منها يُدير “علاقته” بسوريا عبر الأدوات لا عبر الدولة.
ثانيًا – فلسفة العلاقات الإقليمية في مشروع النهضة
لا يمكن لسوريا الجديدة أن تُعاد دمجها في محيطها الإقليمي عبر عقلية الانكفاء أو التبعية، بل وفق المبادئ الآتية:
السيادة الوطنية غير القابلة للتجزئة أو المساومة هي الإطار الحاكم لأي علاقة.
رفض منطق المحاور والاصطفافات الإيديولوجية لصالح منطق المصلحة الوطنية والتكامل السيادي.
الانفتاح على التعاون الأمني والتنموي المشروط بالندية والاحترام المتبادل.
إعادة تعريف الأمن الإقليمي كأمن مشترك لا كذريعة للتدخل أو التوسع.
تحويل موقع سوريا الجغرافي من عامل ضعف إلى مصدر قوة استراتيجية في توازنات المنطقة.
ثالثًا – معادلات الشراكة المطلوبة مع دول الجوار
أ. مع تركيا
طي صفحة الاحتلال والتدخل العسكري في الشمال السوري.
إدارة الملف الكردي من منطلق وطني سوري لا أداة بيد أنقرة.
بناء علاقات اقتصادية–أمنية قائمة على ضبط الحدود، وعودة اللاجئين، وإنهاء مشاريع التتريك والهيمنة الثقافية.
التحول من سياسة التبعية إلى شراكة تُدار من دمشق لا من أنقرة.
ب. مع الأردن ولبنان
دعم سياسة التكامل الحدودي–الاقتصادي–الإنساني بعيدًا عن الارتهان للمحاور.
تنسيق استراتيجي حول قضايا اللاجئين، التهريب، والمياه.
تحويل الجوار إلى امتداد سيادي لا مصدر استنزاف أو تسريب.
ج. مع العراق
إعادة الاعتبار للمعابر السيادية ومواجهة نفوذ الميليشيات.
بناء شراكة طاقوية وزراعية، وتعزيز الأمن الإقليمي المشترك.
الربط بين المشرق السياسي والمشرق الجغرافي عبر مشروع تعاون لا عبر مشروع هيمنة.
د. مع دول الخليج ومصر
الخروج من عقلية العداء والارتباط بالموقف من الثورة أو النظام.
الانفتاح على مشاريع إعادة الإعمار وفق رؤية وطنية، لا كامتيازات مقابل الولاء.
بناء محور تعاون عربي يُعيد الاعتبار للعمل العربي المشترك من داخل سوريا لا من على حسابها.
رابعًا – السيادة في مواجهة منطق الوصاية المقنعة
العديد من القوى الإقليمية لا تدخل من باب العسكرة فقط، بل عبر:
أدوات المجتمع المدني المدعومة سياسيًا،
المشاريع الاقتصادية المشروطة،
الصفقات الأمنية المقايَضة،
الدعم السياسي مقابل القبول بتقسيم النفوذ.
ولذلك، فإن حماية السيادة تقتضي:
عدم قبول أي مبادرة إقليمية لا تعترف بوحدة القرار الوطني،
تحييد أدوات التأثير الخارجي داخل مؤسسات الدولة،
بناء رواية سورية للعلاقات الإقليمية تتجاوز سرديات المحاور،
وتحويل أي انفتاح إلى فرصة لترميم الدولة لا لإعادة تدوير النفوذ.
خامسًا – من الانكشاف إلى الفاعلية الإقليمية
سوريا الجديدة لا تكتفي برفض التدخل، بل تسعى إلى:
استعادة موقعها كمؤثر فاعل في الأمن المشرقي والعربي،
بناء شراكات استراتيجية تستند إلى مشروع النهضة لا إلى إملاءات الخارج،
تفعيل دورها في الوساطة، المبادرة، وصياغة الحلول في المنطقة،
تثبيت مكانتها بوصفها دولة مركزية في أي ترتيبات إقليمية جديدة.
خاتمة الفصل
العلاقات الإقليمية لسوريا ما بعد الاستبداد ليست امتدادًا لأجندات الغير، ولا مجرد ملف بيد العواصم النافذة، بل ركن من أركان السيادة الوطنية، وأداة لحماية الداخل عبر موازنة الخارج.
وحين تعود دمشق عاصمة قرار، ومصدر مبادرة، وشريكًا لا تابعًا، تُستعاد العلاقة الطبيعية مع الجوار: شراكة تكامل لا وصاية، وتعاون مصالح لا لعبة نفوذ، ومجال سيادي لا مجال مفتوح للتدخل.