web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الثاني

الفصل السابع إعادة تشكيل المجال السياسي السوري

من الانسداد إلى التعدد الفعّال

مقدمة تمهيدية

لا يمكن لمجتمع خرج من الاستبداد والحرب والتمزيق أن ينهض من تحت الركام دون إصلاح جذري للمجال السياسي الذي جُرِّف طويلًا حتى غدا فضاءً مغلقًا، معقّمًا من الحياة، خاليًا من التمثيل والتنوع والتعددية الحقيقية.

ومن هنا، يُطرح هذا الفصل كمحاولة أولى لإعادة تعريف المجال السياسي في سوريا بوصفه فضاءً للتعبير والتنظيم والمشاركة، لا أداة للضبط والاحتكار.

فلا نهضة بلا سياسة، ولا سياسة بلا حرية وتعدد، ولا حرية بلا ضمانات بنيوية تحميها من التحريف والتفكك.

أولًا: المجال السياسي السوري: ذاكرة القمع وميراث الإلغاء

منذ مطلع الستينيات، تم القضاء المنهجي على السياسة بوصفها فعلًا جماعيًا حيًا.

فتمّ احتكار المجال السياسي من قبل السلطة، عبر الحزب الواحد، والأجهزة الأمنية، والمجالس الشكلية، وقانون الطوارئ، ثم جرى تعميم نموذج المواطن الصامت، والحزب المطيع، والمعارضة المدجنة.

ومع تعاقب الأزمات، زاد هذا الانغلاق، ليُنتج دولة قائمة على الفراغ السياسي المدجّن، لا على الحراك والمشاركة والتعدد.

جاءت الثورة لتكسر هذا الانسداد، لكنها ما لبثت أن وُوجهت بعنف مفرط، وأُغرقت في فوضى السلاح والتدخلات، ثم تشرذمت المعارضة نفسها، وفقد المجال السياسي طابعه المدني، ليعود إلى حالة الانقسام والتنازع، دون قدرة على التمثيل الوطني الفعلي.

ثانيًا:  من الانسداد إلى التعدد: شروط إعادة التشكيل

ليس المطلوب فقط السماح بالتعدد السياسي، بل تأسيس بنية تُمكِّن هذا التعدد من أن يكون فاعلًا، حيًا، ومؤثرًا في القرار.
ولتحقيق ذلك، يجب توافر الشروط التالية:

دسترة التعددية السياسية، لا كمجرد حرية حزبية، بل كحق أصيل للشعب في التعبير والتنظيم والمحاسبة.

فصل السياسة عن الأجهزة الأمنية، وتحييد أدوات القمع، بحيث لا تُستخدم لقمع الخصوم أو التحكم في المجال السياسي.

إنهاء تبعية الفعل السياسي للخارج، سواء عبر المال السياسي أو الأجندات المفروضة.

إعادة تشكيل الحياة الحزبية على أسس تمثيلية مدنية ديمقراطية، بعيدًا عن الاصطفافات الطائفية أو الأيديولوجية المتحجرة.

إعادة بناء الثقة المجتمعية بالسياسة، من خلال مؤسسات منتخبة، وآليات رقابة، وخطاب يحترم وعي الناس، لا يستغفلهم.

ثالثًا: مكونات المجال السياسي الجديد في سوريا

لإعادة تشكيل المجال السياسي، لا بد من بناء منظومة متكاملة تشمل:

أحزاب مدنية وطنية، تمثل مصالح فئات المجتمع وتخضع لقواعد العمل الدستوري.

مجالس تشريعية حقيقية، تخضع للمساءلة، وتعكس التوازن السكاني والمناطقي والتمثيلي.

مجتمع مدني نشط، يشكل الجسر بين الدولة والمجتمع، ويؤطر الحراك من خارج منطق السلطة.

إعلام سياسي حرّ، يُنتج الخطاب الوطني ويخلق رأيًا عامًا واعيًا.

هيئات انتخابية مستقلة، تضمن التنافس النزيه وتُعيد الثقة بالعملية السياسية.

رابعًا: نحو تعددية فاعلة لا تفكك سياسي

التعددية ليست مرادفًا للفوضى، بل هي الضمان الحقيقي للاستقرار، حين تُصاغ داخل نظام دستوري يحكمه القانون والمشاركة والمساءلة.
أما التفكك، فيحدث عندما تكون التعددية شكلية، أو طائفية، أو خاضعة للسلاح والمال.

ولهذا، فإن المشروع النهضوي لا يكتفي بالسماح بالتعدد، بل يسعى إلى بناء نظام سياسي متماسك، مرن، يحمي التعدد ويمنع انقلابه إلى تشرذم أو اقتتال.

إننا لا نبحث عن تسوية بين قوى متنازعة، بل عن إعادة تأسيس للسياسة كمجال مشترك، يُعبّر فيه الجميع عن مصالحهم ضمن أطر شرعية وقانونية وسلمية.

خاتمة الفصل

إن إعادة تشكيل المجال السياسي في سوريا ليست مسألة فنية، بل ضرورة وجودية لأي مشروع سيادي وطني.

فلا سيادة بدون تمثيل، ولا تمثيل بدون سياسة، ولا سياسة بدون تعددية تُمكّن المجتمع من أن يكون شريكًا في تقرير مصيره.
وهذا الفصل لا يضع خريطة حزبية، بل يؤسس لأرضية سياسية جديدة، تُخرج السوريين من عزلة القهر أو سجن التبعية، وتعيد بناء المجال السياسي كركن أساس في النهضة، لا كمجرد واجهة دستورية فارغة.