القسم الحادي عشر – الباب الثاني
الفصل الحادي عشر تحصين السيادة من التبعية
الرهان على الداخل لا الخارج
مقدمة تمهيدية
ليست السيادة حالة قانونية فحسب، بل قدرة حقيقية على اتخاذ القرار الحرّ دون خضوع لإملاءات أو ارتهانات.
وفي سوريا، لم يكن تآكل السيادة مجرّد نتيجة للاحتلال أو الهيمنة العسكرية، بل نتاجًا لبنية كاملة من التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية والفكرية، جعلت القرار الوطني خاضعًا لمنطق الخارج أكثر من منطق المصلحة الوطنية.
ومن هنا، يطرح هذا الفصل مهمة جوهرية في مشروع النهضة: تحصين السيادة من التبعية، لا بالشعارات بل ببناء واقع جديد يجعل من الداخل ركيزة القرار ومصدره.
أولًا – التبعية في التجربة السورية: تفكيك البنية لا الظواهر
منذ الاستقلال، خضعت سوريا لشبكة من التبعيات المتراكبة:
تبعية سياسية لأنظمة المحاور (مصر – الاتحاد السوفيتي – إيران – روسيا).
تبعية اقتصادية عبر المعونات، الاتفاقيات غير المتكافئة، والارتهان للنفط والسلاح.
تبعية أمنية عبر التنسيق الاستخباراتي مع قوى الخارج، وتبادل السيطرة على الملفات السيادية.
تبعية فكرية أنتجت خطابًا سلطويًا يُبرر التبعية باسم الواقعية، أو المقاومة، أو التوازنات.
وكانت النتيجة: دولة بلا قرار، ومجتمع بلا سيادة، وحكم يدير البلد بالوكالة، لا بالأصالة.
ثانيًا – مفهوم التحصين: من الانفصال عن الخارج إلى إعادة بناء الداخل
تحصين السيادة لا يعني الانغلاق، بل بناء بنية وطنية صلبة تمنع التبعية، وتحوّل الشراكة الخارجية إلى اختيار لا اضطرار.
ويبدأ ذلك من:
امتلاك قرار سياسي غير مرتهن.
الاستغناء التدريجي عن الدعم المشروط.
فك الارتباط مع أنظمة النفوذ مقابل بناء شراكات نزيهة.
تقوية البنية المجتمعية والمؤسساتية لتصبح الدولة قادرة على الاستقلال الذاتي في القرار والسياسات.
ثالثًا – مقوّمات الرهان على الداخل
لكي لا يكون الداخل هشًّا أو مفرغًا من القدرة، لا بد من:
اقتصاد وطني متنوع وقائم على الإنتاج المحلي.
نظام تمثيلي شرعي يمنح الحكومة سلطة حقيقية مستقلة.
مؤسسات بحث وتخطيط واستشراف قادرة على بلورة خيارات وطنية واقعية.
رأي عام وطني مستقل يدعم القرار السيادي ويقاوم التدخلات.
بيئة تشريعية تمنع تغوّل المصالح الخارجية على السيادة القانونية والاقتصادية والسياسية.
رابعًا – التبعية كأداة استعمار ناعم: من الهيمنة الاقتصادية إلى اختراق القرار
في عالم اليوم، لم تعد السيطرة بالاحتلال المباشر فقط، بل بـ”التبعية” الناعمة التي تعمل على:
رهن القرار الاقتصادي للجهات المانحة.
فرض شروط سياسية عبر الدعم والمساعدات.
التأثير على الحياة الحزبية والمجتمع المدني عبر التمويل.
اختراق المجال الإعلامي والثقافي والتعليمي.
تحويل النخبة إلى وكلاء مصالح خارجية.
ولهذا، فإن أي مشروع سيادي لا يعالج هذه التبعيات، سينتهي إلى إعادة إنتاج الاستعمار بأساليب جديدة.
خامسًا – آليات عملية لتحصين السيادة
يتطلب مشروع النهضة في هذا المحور:
إقرار قوانين شفافة لضبط التمويل الأجنبي، دون منع مطلق ولكن بضوابط صارمة.
الاستثمار في الإنتاج المحلي بدل الاعتماد على الاستيراد والدين الخارجي.
تفعيل الإعلام الوطني المستقل الذي يُعبّر عن الداخل لا يُدار من الخارج.
إطلاق برامج تثقيف سياسي وطني تُعزز الانتماء وتفكك خطاب التبعية.
بناء شراكات خارجية مشروطة بالندية والاحترام المتبادل، لا بالهيمنة والوصاية.
خاتمة الفصل
السيادة لا تتحقق فقط بطرد المحتل، بل بمنع عودته بأشكال أخرى: في القرار، في السوق، في التعليم، في الخطاب، في الثقافة.
ولهذا، فإن تحصين السيادة ليس فعلًا دفاعيًا فقط، بل عملية بناء إيجابي لداخل قويّ، مستقل، واعٍ بذاته، ورافض لأن يُدار من الخارج مهما كانت الذرائع.
وهذا الرهان على الداخل هو ما يصنع النهضة، ويحميها، ويمنحها قاعدتها التي لا تهتز مهما تغيّر الخارج.