web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الثالث

الفصل السادس عشر الأمن المجتمعي والوطني

من جهاز الأمن إلى الثقة العامة

مقدمة تمهيدية

في سوريا، لم يكن المواطن يومًا في موقع الأمان الحقيقي.
تحوّل الأمن إلى أداة للقمع، والخوف إلى نمط حياة، والمؤسسات الأمنية إلى سلطات مطلقة لا تُسأل ولا تُحاسب.
لكنّ الأمن في الدولة السيادية لا يُبنى على الخوف، بل على الثقة، والعدالة، والشراكة المجتمعية.

ومن هنا، يُعاد بناء مفهوم “الأمن الوطني” لا بوصفه جهازًا فوقيًّا، بل منظومةً تُرسّخ الاستقرار عبر استعادة العلاقة بين المجتمع والدولة على قاعدة الاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة.

أولًا – من الأمن كأداة قمع إلى الأمن كعقد مجتمعي

عانى السوريون لعقود من أمن مُوجَّه ضدهم لا لأجلهم.
فقد:

تمّت عسكرة الحياة اليومية.

تحوّلت مؤسسات الدولة إلى فروع أمنية مغلقة.

غابت الشفافية، واستُخدم القانون كذريعة لتبرير التجاوزات.

تَربَّى الناس على الخوف من الدولة، لا الثقة بها.

والنتيجة: انفصال كامل بين المواطن ومؤسسات الحماية، وتراجع مناعة المجتمع، وتحوّل الأمن من مصدر طمأنينة إلى رمز رعب.

ثانيًا – الأمن المجتمعي: الحماية من داخل النسيج الوطني

يبدأ الأمن الحقيقي من المجتمع نفسه.
فالأمن المجتمعي يعني:

قدرة الناس على التعايش دون خوف.

إحساس الفرد بأن حقوقه مصونة ومصالحه محمية.

بناء شبكات حماية من العنف، والانهيار، والتطرّف، والانقسام.

تمكين المجتمعات المحلية من التعبير، والتنظيم، والإنذار المبكر لأي خطر داخلي.

في سوريا، حيث يتقاطع التعدد مع التهميش، والانقسام مع الفوضى، يصبح الأمن المجتمعي أداة تماسك وطني قبل أن يكون وظيفة شرطية.

ثالثًا – مقومات الأمن المجتمعي في السياق السوري

عدالة انتقالية حقيقية تعترف بالمظالم وتبني مسارًا للإنصاف والمصالحة.

مأسسة الشرطة المحلية ضمن معايير وطنية تمثيلية، تُديرها الدولة لا الفصائل، وتخضع للمساءلة المجتمعية.

تمكين المجتمع المدني في الرقابة والمشاركة بالأمن الوقائي.

التربية المدنية الجديدة التي تُعيد تشكيل علاقة الناس بالقانون كمصدر حماية لا قمع.

نظام رعاية اجتماعية واقتصادية يُخفف من دوافع العنف والتمييز والانحراف.

فالأمن هنا ليس أمن النظام بل أمن الناس – في بيوتهم، وأحيائهم، وكراماتهم، وحقوقهم.

رابعًا – إعادة تعريف دور جهاز الأمن: وظيفة لا سلطة

جهاز الأمن في الدولة الجديدة يجب أن:

يُعرَّف دستوريًا كجزء من منظومة حماية لا من أدوات السيادة العليا.

يخضع للرقابة القضائية والبرلمانية والمجتمعية.

يُفصل عن المهام السياسية.

يعمل وفق معايير مهنية وطنية – وليس أيديولوجية أو طائفية أو حزبية.

يُمنع دستوريًا من التدخل في شؤون القضاء، الإعلام، التعليم، أو الاقتصاد.

وهذا ليس تفصيلًا مؤسسيًا، بل شرط جوهري لإعادة بناء ثقة الناس بالدولة.

خامسًا – الثقة العامة بوصفها القاعدة الأولى للأمن الوطني

في سوريا، لا يمكن الحديث عن أمن وطني دون استعادة الثقة بين المواطن والدولة، وتجاوز:

إرث الأجهزة المخيفة.

مآسي الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري.

تجارب الإذلال والإهانة اليومية.

اختراق البيوت والمجتمعات تحت غطاء “الأمن الوقائي”.

البديل هو دولة تحمي، لا تراقب؛ تداوي، لا تبتز؛ تحتكم للقانون، لا للتقارير السرية.

وهنا يصبح بناء الثقة العامة – عبر الشفافية، والمحاسبة، والانفتاح، والخدمة الفعلية – هو حجر الزاوية في أي أمن وطني حقيقي.

خاتمة الفصل

لن تنهض سوريا دون أن يشعر المواطن بأنه آمن – لا خائف.
وأن الدولة تحميه – لا تترصده.
وأن الأجهزة تُخضع نفسها للقانون – لا تُخضع القانون لها.

ومن هنا، فإن مشروع الأمن المجتمعي والوطني هو ردّ الاعتبار للناس بوصفهم أصحاب الحق، لا أهداف المراقبة.
وهو المسار الوحيد لبناء مجتمع متماسك، ودولة مستقرة، ونهضة لا تسقط عند أول تهديد، لأن أمنها نابع من ثقة الناس بها، لا من سطوة مؤسساتها.