القسم العاشر – الباب الرابع
الفصل الثالث عشر المجالس الدستورية العليا
من الهيبة الرمزية إلى الفعل الضامن
إعادة تشكيل البنية الضامنة للتوازن الدستوري واستقلال السلطات واستمرارية الشرعية القانونية
أولًا: الإشكالية – من المجالس الشكلية إلى المؤسسات المفرغة
عاشت سوريا طوال عقود تحت نظام يُنتج المجالس العليا والمجالس الدستورية كأجسام رمزية تُمنح صفات “الهيبة” و”الحصانة”، دون أن تملك أي فاعلية حقيقية أو صلاحيات مراجعة أو رقابة أو تصحيح.
لقد تم تفريغ المحكمة الدستورية العليا – مثلًا – من مضمونها، فتحولت إلى أداة شكلية لإضفاء المشروعية على ما يُقرّه النظام، بدل أن تكون مرجعًا حاسمًا للرقابة على السلطة التنفيذية والتشريعية.
وبغياب هذه البنية الضامنة، تحولت السلطة إلى كتلة صلبة لا تخضع لأي كبح دستوري، ولا لأي تصحيح داخلي، ما ساهم في انهيار الشرعية، وتآكل مبدأ سيادة القانون.
ثانيًا: التحديات التي تواجه تأسيس مجالس عليا فاعلة ومستقلة
الإرث الطويل من التسييس والتفريغ المؤسساتي للمجالس القضائية والدستورية.
ضعف الثقافة القانونية الدستورية لدى النخب والمجتمع على حد سواء.
تداخل الصلاحيات وغموض المعايير الناظمة لتشكيل المجالس وعملها.
غياب المساءلة الفعلية لهذه الهيئات، واستعصاؤها على الرقابة المجتمعية.
الخوف التاريخي من تمكين أي هيئة مستقلة تستطيع تحدي قرارات السلطة.
ثالثًا: الرؤية الجديدة – المجالس العليا كآليات سيادية لا مكاتب سياسية
في النموذج الدستوري النهضوي، تُبنى المجالس العليا – وفي مقدمتها المجلس الدستوري – كركائز سيادية مستقلة، وظيفتها:
ضمان التوازن بين السلطات لا حماية أي منها.
الرقابة على الشرعية القانونية لا على الولاءات السياسية.
صون النص الدستوري عبر التفسير والتحديث والتطبيق، لا عبر التجميد أو التحريف.
حماية المواطن من تغوّل السلطة، وليس السلطة من نقد المواطن.
رابعًا: خطوات العمل لتأسيس بنية المجالس الدستورية العليا
1. وضع الأساس الدستوري والوظيفي لهذه المجالس
تحديد المجالس العليا الدائمة (الدستوري – القضائي – الانتخابي – المحاسبي…) وصلاحيات كل منها.
حصر وظيفة المجلس الدستوري في: الرقابة على دستورية القوانين، فض النزاعات الدستورية، تفسير النصوص العليا.
استقلال هذه المجالس عن جميع السلطات، مع ربطها مباشرة بالشعب عبر آليات الشفافية والمساءلة.
2. إقرار آلية شفافة ونزيهة لتشكيل المجالس
اعتماد نظام تعيين–انتخاب–اختيار مشترك يضمن تمثيلًا متوازنًا واستقلالًا مهنيًا.
اشتراط النزاهة والسجل القانوني والتاريخي النظيف لكل من يُرشح لهذه المجالس.
منع ازدواجية المناصب أو التبعية الحزبية أو الولاء الفئوي داخل تشكيلات هذه المجالس.
3. إرساء ضمانات قانونية لعدم التدخل أو الضغط
حصانة وظيفية لأعضاء المجالس، مشروطة فقط بالقانون والأداء.
تجريم أي محاولة تأثير سياسي أو إداري على عمل هذه الهيئات.
إمكانية لجوء المواطن أو الهيئات المدنية مباشرة إلى المجلس الدستوري للطعن بالقوانين أو السياسات.
4. مأسسة العلاقة بين المجالس العليا والمجتمع
إلزام المجالس بإصدار تقارير سنوية علنية تشرح قراراتها وتقييماتها ومآلاتها.
إطلاق منصات إلكترونية لاستقبال الرأي العام والطعون والمقترحات القانونية.
تنظيم دورات عامة لتثقيف المجتمع حول دور هذه المجالس وطريقة عملها.
خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية
- المرحلة الأولى (أشهر 0–12)
صياغة المواد الدستورية الخاصة ببنية المجالس العليا واستقلالها.
إصدار قانون إنشاء المجلس الدستوري الأعلى وصلاحياته وتشكيله.
فتح باب الترشيح الشعبي والنقابي لعضوية المجالس وفق معايير النزاهة.
- المرحلة الثانية (سنة 1–3)
مباشرة أولى المهام الرقابية للمجلس على التشريعات والسياسات العامة.
إنشاء المحكمة الدستورية الدائمة كجناح قضائي للمجلس.
نشر أول تقرير تقييمي دستوري للمشهد العام بعد المرحلة الانتقالية.
- المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)
مأسسة العلاقة بين المجالس والبرلمان والمجتمع المدني ضمن آلية تكامل لا وصاية.
توسيع نطاق صلاحيات المجلس لتشمل مراجعة الصيغ الدستورية الجديدة ودراسة الأزمات القانونية الكبرى.
إنشاء مرصد وطني لسلامة النظام الدستوري والحقوقي، يرتبط بالمجلس ويُصدر تنبيهات دورية.
سادسًا: المجالس العليا كضمانة بقاء الدولة لا استمرار السلطة
في المشروع السوري النهضوي، لا تُبنى الدولة على نزوة الأغلبية، ولا على تسلط النخبة، بل على بنية قانونية راشدة تُراجع نفسها باستمرار، وتُحمي النص من التلاعب، وتُحمي الإنسان من التجاوز، وتُبقي السلطة تحت سقف القانون دومًا.
وهكذا تتحوّل المجالس العليا من واجهة جامدة إلى قلب نابض للشرعية، وسياج للحرية، ومحرّك للتوازن، وركيزة لتأسيس دولة تحيا بالقانون لا فوقه.