web analytics
spot_img

ذات صلة

السيادة السورية… آن أوان ولادتها الحقيقية

لم يكن ما عاشه السوريون خلال العقود الماضية دولة ذات سيادة فعلية، بل كان نسخة مشوهة من الدولة، غلاف خارجي صلب يخفي هشاشة عميقة في الداخل. كم ترددت كلمة السيادة في خطابات النظام، وكم استُخدمت لتبرير القمع والانعزال والانغلاق، لكنها لم تكن يومًا تعني القرار المستقل، أو الإرادة الحرة، أو احترام المواطن.

حين نتحدث في مشروع النهضة عن “غياب السيادة الحقيقية”، فنحن لا نكتفي بوصف الواقع، بل نحاكمه، ونكشف زيف الرواية التي ادعت طيلة عقود أن سوريا دولة حرة ومستقلة. الحقيقة أنها لم تكن كذلك. منذ لحظة الاستقلال الشكلي عن الانتداب الفرنسي، بقي القرار السوري مُصادَرًا من الخارج، تارة باسم المصالح الدولية، وتارة باسم التوازنات، وأطولها وأشدها وطأة كانت تلك السنوات التي تحولت فيها سوريا إلى ورقة تفاوضية بيد الحلفاء، لا طرفًا حقيقيًا في المعادلة.

في زمن الحرب الباردة، لم يكن التموضع السوري خيارًا وطنيًا نابعًا من تقدير للمصلحة العامة، بل كان خضوعًا لمعادلات المحاور، حتى غدت البلاد أقرب إلى قاعدة متقدمة للنفوذ السوفييتي في المنطقة. ثم جاء النظام البعثي ليُحكم الإغلاق، فيحول السيادة إلى مجرد غطاء يستخدمه عند الحاجة، ويتنازل عنها في الخفاء متى خدمته الظروف. لاحقًا، ومع دخول البلاد في التحالف الإيراني الروسي، أصبح الحفاظ على الكرسي أولى من الحفاظ على القرار الوطني، وصار بقاء النظام هو المعيار الوحيد لأي تحرك، داخليًا كان أو خارجيًا.

هذه ليست مجرد سردية سياسية، بل مأساة وطنية بكل ما تعنيه الكلمة. مأساة أن تتحول الدولة إلى أداة بيد السلطة، وأن تتحول السيادة إلى امتياز شخصي لا مسؤولية وطنية. لم تكن هناك سيادة فعلية حين كانت الطائرات الأجنبية تضرب مواقع في قلب العاصمة دون رد، ولم تكن هناك سيادة حين حُكمت البلاد بالأمن والمخابرات، وحُرم المواطن من أن يقول رأيه أو يشارك في رسم مستقبله.

مشروع النهضة يرفض هذا النموذج بكل وضوح، ويقترح تصورًا مغايرًا وجريئًا للسيادة. سيادة لا تُقاس بشدة الخطاب بل بحرية القرار. لا تُكرّس لحماية السلطة، بل تُبنى لحماية الوطن والمواطن. السيادة كما نراها في مشروع النهضة هي قدرة المجتمع على أن يُعبّر عن نفسه، ويُدير موارده، ويصوغ مستقبله بمعزل عن أي تبعية. هي أن تُبنى الدولة على قاعدة التمثيل، لا على قاعدة الولاء، وأن يُصاغ القرار من إرادة الداخل، لا من مكاتب السفارات أو غرف العمليات الإقليمية والدولية.

لهذا، فإن مشروع النهضة لا يطالب فقط باستعادة السيادة، بل بإعادة تعريفها. لم نعد نرضى بسيادة شكلية تُستخدم عند الحاجة، بل نريد سيادة حقيقية تنبع من عقد اجتماعي حر، من مؤسسات مستقلة، من إعلام حر، من قضاء نزيه، من اقتصاد وطني لا يخضع للابتزاز أو المحاصصة.

السيادة ليست علَمًا على مبنى ولا نشيدًا في الطابور الصباحي، إنها الحق الجماعي في تقرير المصير. إنها أن يشعر المواطن أن قرارات بلده لا تُصاغ ضده، وأن كرامته لا تُعلّق على مصالح الآخرين. إنها أن يكون للأرض حرمتها، وللناس مكانتهم، وللرأي العام وزنه.

اليوم، وبعد كل هذا الانهيار، يبدو واضحًا أن اللحظة مناسبة لبناء سيادة جديدة، نابعة من التجربة المريرة، لا من أوهام الشعارات. لم يعد ممكنًا أن يُدار بلد بحجم سوريا بعقلية العزلة والخوف والارتهان، ولا يمكن لأي مشروع وطني أن يُكتب له النجاح ما لم يضع السيادة في قلب رؤيته.

الرهان الحقيقي ليس على تسوية سياسية عابرة، بل على مشروع عميق يستعيد معنى الدولة. مشروع النهضة لا يطرح وعودًا سطحية، بل يسائل الجذور، ويبدأ من هناك. يبدأ من فكرة أن السيادة ليست ترفًا، بل ضرورة. ليست شعارًا، بل ممارسة. ليست ملكًا للنظام، بل ملكًا للشعب.

Alex Yousef

متوسط التقييم
لا يوجد تقييم بعد
Alex Yousef
Alex Yousefhttps://syria-nahda.org
مبرمج كمبيوتر وخبير في أنظمة الذكاء الصناعي والحلول التقنية. أعمل على تطوير أدوات ذكية ومشاريع تكنولوجية تدعم التغيير الإيجابي في المجتمعات. أشارك حاليًا في مشروع النهضة وبناء الدولة السورية ما بعد الاستبداد، وأسعى من خلاله إلى تسخير التقنية والمعرفة لبناء مستقبل يليق بالإنسان السوري.عضو مؤسس.
spot_imgspot_img