القسم الأول
الأزمة التأسيسية: هل وُلدت الدولة السورية معاقة؟
مدخل تمهيدي:
لا تبدأ المأساة من لحظة السقوط، بل من لحظة التأسيس،
حين يُبنى الكيان على أرضية هشة، أو على عقد اجتماعي زائف، أو على جغرافيا لم تُصغ بعد بصوت أصحابها.
ولهذا، لا بد أن يُطرح السؤال بجرأة:
هل وُلدت الدولة السورية – بصيغتها الحديثة – معاقة بنيويًا؟
هل كانت لحظة الاستقلال بداية التحرر، أم لحظة تأسيسٍ مأزومة لبنية دولة غير مكتملة الشرعية، مضطربة الهوية، ومجروحة التصور عن ذاتها ومجتمعها؟
في هذا الفصل، لا نُعيد كتابة التاريخ، بل نبحث في الجذور المؤسسة لما أفضى إلى الانهيار الكبير:
الجذور التي لم تُعالج،
ولم تُفكك،
بل بُني فوقها نظام، ففوقه نظام، ففوقه سلطة، حتى تراكم الفشل في طبقاتٍ متكلّسة.
أولًا: لحظة الاستقلال بين الرمز والفراغ
حين خرج الانتداب الفرنسي من سوريا عام 1946، رُفع العلم، وعزفت الموسيقات، وأُعلن “الاستقلال”.
لكن ما لم يُقال، أن الدولة التي استلمت الراية لم تكن تملك من مقوّمات الدولة إلا الاسم.
لم يكن هناك جهاز إداري راسخ،
ولا بنية سياسية متجذرة،
ولا مؤسسات تمثيلية ناضجة،
ولا مشروع وطني جامع.
بل كانت هناك نُخب مرتبكة، ومجتمع متعدد الهوية، ومؤسسات حديثة الولادة، وسط سياق إقليمي ودولي يحكمه منطق السيطرة والاصطفاف.
وبدلاً من الانكباب على إعادة بناء الدولة من الداخل، انخرطت النخب في صراعات المحاور، والتحزّبات الإيديولوجية، والصراعات على السلطة، “فتحوّل الاستقلال من فرصة تأسيس إلى ساحة تجريب متكرّر.”.
ثانيًا: الدولة المصنوعة من فوق – لا من المجتمع
لم تتشكّل الدولة السورية من تفاعل طبيعي بين المجتمع ومؤسساته، بل فُرضت كبنية فوقية، ذات طابع إداري مستنسخ عن النموذج الكولونيالي.
بمعنى آخر:
الدولة لم تنبع من المجتمع،
ولم تُعبّر عن بنيته،
بل جرى تركيبها عليه كجهاز ضبطٍ أكثر من كونها أداة تمثيل.
وهذا ما جعل العلاقة بين الدولة والمجتمع علاقة ريبة لا شراكة، علاقة رقابة لا رعاية، علاقة أمر لا حوار.
فالمواطن السوري، منذ التأسيس، لم يشعر أن الدولة خرجت من كيانه، بل فُرضت عليه من جهة عليا، لم يفهمها، ولم تشاركه القرار، ولم تحترم هويته أو تنوعه أو ثقافته.
وبذلك، وُلدت الدولة منفصلة عن المجتمع، والشرعية مجرّدة من التمثيل. “فكانت دولة بلا انتماء، وسلطة بلا أساس.”
ثالثًا: غياب التصور الوطني الجامع
ما من دولة يمكن أن تُبنى دون رؤية تُجمع حولها أطياف المجتمع، وتُقدَّم كمشروع جامع يتجاوز الانتماءات الأولية.
لكن ما حدث في سوريا هو أن النخب التي تعاقبت على السلطة فشلت في إنتاج سردية وطنية جامعة، واكتفت بشعارات قومية أو دينية أو طبقية تنفر منها فئات واسعة.
فالقومية العربية همّشت غير العرب،
والاشتراكية صادرت ملكية الطبقة الوسطى دون أن تنتج عدالة،
والإسلام السياسي فشل في أن يكون حاضنة جامعة،
والعشائرية والمناطقية عادت لتملأ الفراغ في المعنى.
فتشظّت الهوية، وتوزّعت الولاءات، وتراجع الانتماء الوطني لحساب الروابط الدنيا، لأن الدولة لم تقدّم ذاتها كمرجعية عادلة تحتضن الجميع.
رابعًا: التناقض التأسيسي بين الشكل والمضمون
صيغت الدساتير، وأُجريت الانتخابات، وعُقدت الجلسات البرلمانية، لكن كل ذلك جرى في ظل غياب مضمون حقيقي يُحرّك الشكل.
الدستور لم يكن تعبيرًا عن عقد اجتماعي حي، بل نصًا قانونيًا وُضع فوق الواقع.
البرلمان لم يكن منبرًا لتمثيل المجتمع، بل تكرارًا لنخب منفصلة عنه.
التعدديات الحزبية كانت سطحية، ومشروطة، وسرعان ما أُجهِضت بانقلابات متتالية.
فبقي الشكل قائمًا، لكن المضمون غائبًا، وهو ما جعل أيّ أزمة – مهما كانت صغيرة – تتحوّل إلى أزمة وجود، لأن ما بُني لم يكن متينًا، بل هشًّا، هشاشة بنيته وشرعيته.
الخلاصة:
لم يكن الاستقلال لحظة ولادة حقيقية للدولة السورية، بل كان لحظة كشف عن فقرٍ في التصور، وهشاشة في البناء، وانفصالٍ بين المجتمع والسلطة.
وقد شكّلت هذه اللحظة التأسيسية نقطة الانطلاق لانحدارٍ طويل، لم يكن سببه فقط أنظمة الحكم اللاحقة، بل البنية التي لم تُؤسَّس أصلًا على قاعدة عادلة، ولا على شراكة مجتمعية.
ولهذا، فإن فهم النهضة لا يبدأ من إسقاط النظام الحالي، بل من قراءة المشهد التأسيسي نفسه، وتحليل أعطابه، وبناء تصوّر بديل لا يُكرر لحظة الولادة المشوّهة.
فما وُلد معاقًا، لا يُشفى بالترقيع، بل بإعادة التأسيس على وعيٍ جديد.