بنية الاستبداد وآليات الهيمنة
مدخل تمهيدي:
الاستبداد ليس لحظة انقلاب، بل منظومة طويلة الأمد،
لا تُبنى بالصدفة، ولا تنهار بالصدمة،
بل تتجذر عبر الزمن، عبر مؤسسات تتآكل من الداخل، وقيم تُستبدل تدريجيًا، ونُخبٍ تتورّط باسم الوطنية، ومجتمعٍ يُعاد تشكيله ليخدم غايتها دون أن يشعر.
في الحالة السورية، لم يكن الاستبداد مجرّد سلطة قمعية، بل نظامًا معرفيًا–سياسيًا متكاملًا، أعاد تعريف معنى الدولة، ومعنى المواطن، ومعنى الحق، ومعنى الوطن نفسه
ولذلك، لا يكفي أن نقول “سقطت الحرية”، بل يجب أن نسأل:
كيف بُني الاستبداد؟
من أين تغذّى؟
ما الأدوات التي جعلته يستمر؟
ولماذا قبِله المجتمع – أو سكت عليه – لعقود؟
أولًا: من الاستقرار إلى الاستئثار – صناعة الدولة–الجهاز
عندما صعد حزب البعث إلى السلطة عام 1963، حمل شعارات التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية.
لكن ما حدث لاحقًا، لم يكن ترسيخًا للمشروع، بل انزلاقًا تدريجيًا نحو بناء جهاز يُدير الدولة لا ليخدمها، بل ليحتكرها.
- الدولة لم تعد ساحة تنافس بين رؤى، بل مجالًا مغلقًا يُعاد هندسته لصالح المركز السلطوي.
- مؤسسات التمثيل أُفرغت من مضمونها، وذُوّبت داخل الحزب.
- الوزارات أُلحقت بالأجهزة الأمنية.
- البيروقراطية تحوّلت إلى ذراع للولاء لا للكفاءة.
- الخطاب القومي استُخدم لتبرير إلغاء التعدد.
- والنظام الجمهوري صار عمليًا نظامًا سلطانيًا بدون اسم.
بذلك، لم تُبنَ دولة قانون ولا مؤسسات، بل جهاز سيطرة مغلق، محكوم بمنطق الشك لا الثقة، والمنع لا الإبداع، والإخضاع لا المشاركة.
ثانيًا: ترويض المجتمع – الهندسة الناعمة للولاء
الاستبداد في سوريا لم يُمارس بالسجن فقط، بل بالترويض.
- أعيد إنتاج الخطاب المدرسي ليُقدّس القائد لا الفكرة.
- أُخضعت النقابات والجمعيات والمراكز الثقافية لإشراف حزبي صارم.
- تم تطبيع الخوف عبر التكرار، وعبر تذويب الحدود بين المواطن والمخبر، بين الفرد والجهاز.
- رُبط الخبز بالولاء، والوظيفة بالصمت، والتعليم بالتبعية، والعلاج بالانضباط.
وبذلك، أصبح المواطن لا يعيش فقط تحت سلطة الاستبداد، بل يُنتج جزءًا منها دون أن يدري، لأن الاستبداد لم يَسْكن في السجون فقط، بل في الوعي، في اللغة، في العلاقات اليومية، في المِزاج العام، وفي المفاهيم التي تشكّل صورة الذات والآخر.
ثالثًا: العنف كأداة تأديب… لا استثناء
لم يكن العنف السياسي في سوريا خطأً أو تجاوزًا، بل أداة تأسيسية.
من حماة إلى تدمر،
ومن صيدنايا إلى عشرات السجون الصغيرة،
كان النظام يستخدم العنف لا كحلّ لأزمة، بل كوسيلة لصياغة العلاقة مع المجتمع:
- أن ترى الدولة بيدٍ دامية،
- أن يعرف الجميع أن التمرّد ثمنه الفناء،
- أن تتحوّل الكارثة إلى رادع دائم عن التفكير.
هذا العنف لم يُمارَس فقط على الأفراد، بل على الرمزية الجماعية للمجتمع:
- على الطائفة المعارضة،
- على المدينة التي تمردت،
- على النخبة التي لم تبايع،
- على الكلمة التي خرجت عن النص.
وهكذا، أصبح الخوف ليس نتيجة قمع، بل أساس العلاقة بين الدولة والمواطن.
رابعًا: تفكيك النخبة وصناعة الولاء
النخبة الفكرية والاقتصادية والدينية في سوريا، لم تُستبعد دائمًا، بل أُعيد تشكيلها ضمن منطق الطاعة.
- المثقف إن أراد أن يبقى، عليه أن يُسبّح باسم القائد.
- رجل الدين عليه أن يحوّل المنبر إلى مدح، لا مساءلة.
- التاجر عليه أن يُموّل السلطة كي يُسمح له بالعيش.
- الأكاديمي عليه أن يُعيد إنتاج المقرر لا أن يُنتج معرفة.
وهكذا، لم يُقصِ النظام النخبة دائمًا، بل حوّلها إلى مرآة له.
فاختفت النخبة المعارضة، أو نُفيت، أو سُجنت،
وحلّ محلها نخبة هجينة، بلا فكر، بلا موقف، بلا عمق، بل فقط بوظيفة: إعادة إنتاج الشرعية الشكلية لمنظومة فقدت مبررات بقائها.
خامسًا: النظام العالمي كضامن للاستبداد
الاستبداد السوري لم ينجُ وحده، بل نجا لأنه كان مفيدًا.
- مفيدٌ للمحاور الدولية التي تريد استقرارًا أمنيًا بأي ثمن.
- مفيدٌ لأن وجوده حمى مصالح إقليمية، وقام بدور وظيفي واضح.
- مفيدٌ لأنه لم يُزعج ميزان القوى الدولي، بل أدّى وظيفته بإتقان.
فغضّت القوى الكبرى الطرف عن السجون،
وصافحت الدول يد الجلاد،
وتمّت إعادة تأهيل النظام مرارًا، لأنه ببساطة لم يكن خطرًا على النظام الدولي، بل على شعبه فقط الذي بقي وحده خارج معادلة “الاستقرار المفيد
الخاتمة:
الاستبداد في سوريا لم يكن مرحلة طارئة، بل بنية متكاملة من إنتاج الدولة، والمجتمع، والنخبة، والسياق الدولي.
لم يكن الحاكم وحده هو الفاعل، بل نظامٌ كاملٌ من الخضوع المتبادل، والمصالح المتقاطعة، والتطبيع مع الإهانة، وترويض الخيال.
ولهذا، فإن النهضة لا تبدأ فقط بإسقاط المستبد،
بل بفهم الآلية التي جعلت الاستبداد ممكنًا، ومقبولًا، ومزدهرًا، ثم متوارثًا.
ولا معنى لأي مشروع تغييري لا يفكك بنية الاستبداد، لا كشخص، بل كمنظومة،
ولا كسلطة، بل كنظام حياة وتشغيل.