من شتات الصوت إلى وحدة الطريق: آن أوان الالتفاف حول مشروع وطني جامع
بقلم: شادي عادل الخش
لم يكن الانقسام السوري مجرّد تباين في الآراء أو تنافس بين مشاريع، بل تشظيا عميقا في المنطلقات والمفاهيم والرؤى، شتّت الجهد وأضعف الثورة، وأطال عمر الاستبداد. فبعد أكثر من عقد على لحظة الانفجار الوطني الكبير في 2011، لا تزال ساحات النقاش السوري، في الداخل والشتات، تمتلئ بالسجال، وتفيض بالتشكيك، ويتنازعها خطابان لا يلتقيان: خطاب ماضوي يتكئ على الهويات الضيقة والانفعالات، وخطاب وطني يبحث عن مخرج عقلاني جامع وسط الركام.
يبرز في النقاشات السورية نمط مقلق من ادعاء التمثيل الحصري للثورة أو الوطن أو الدين.
ثمة من يعتقد أن مشاركته المبكرة أو تضحيته تُخوله احتكار الحديث باسم “سوريا”، وأن خلاف الآخرين معه ليس إلا طعنا في “الثوابت”، أو خيانةً للدماء، أو حقدا على الدين، أو اصطفافا مع الفلول.
وهنا نكون أمام خطاب يُعيد إنتاج الاستبداد بلغة جديدة، يتحوّل فيه “الثوري” إلى وصي، و”المثقف” إلى طارئ، و”الناقد” إلى عدو.
هذا النمط من التفكير لا يؤسس لدولة ولا لمستقبل. بل يزرع بذور الشقاق في تربة ما زالت مشبعة بالدم والخذلان. وسوريا الجديدة،لا يمكن أن تُبنى على امتلاك الحقيقية بل على المشاركة في إنتاجها.
في الحوارات التي شهدناها مؤخرا – سواء في المنتديات السياسية أو المجموعات المدنية – يتكرر مشهد مألوف:
أحدهم يمجّد السلطة الجديدة باعتبارها “هبة إلهية” و”تحول تاريخي سلس”، وآخر يرد عليه بأنه “لا فرق جوهري” بين السلطة الجديدة وسابقاتها، وثالث يطلب الوقائع لا التهويم، ويسأل: أين العدالة؟ أين المؤسسات؟ أين المحاسبة؟
تُظهر هذه الحوارات هشاشة المشهد الخطابي، وعجزه عن التحوّل إلى نقاش تأسيسي تراكمي. فإما شعاراتية شعبوية مفرطة في الحماسة، أو تشكيك مطلق يشيطن كل محاولة.
والغائب الأكبر هنا هو المنهج: كيف نُقيّم التغيير؟ ما معيار الحكم على السلطة؟ هل نملك أدوات لمساءلتها؟ هل لدينا رؤية متكاملة لما بعد اليوم؟
يختلط في النقاش السوري مفهوم “الوطنية” بالدين، والدين بالطائفة، والطائفة بالمنطقة، والمنطقة بالتحزّب.
نسمع من يقول: “من لا يؤيد الحكومة فهو طائفي”، وآخر يقول: “من يرفع راية دينية لا يمكن أن يمثل كل السوريين”، وثالث يُكفّر العلمانية أو الليبرالية أو أي تصور يخالف مزاجه.
هذا المشهد يعكس غياب هوية وطنية جامعة. فحين تتحوّل الرموز (كالعلم، الشعار، أو عبارة دينية) إلى أدوات انقسام بدل أن تكون روافع توحيد، نكون أمام أزمة سردية وطنية، لا تحلّها المزايدة بل بناء سردية جديدة تُنهي مرحلة الفصائلية، وتضع جميع السوريين في إطار سياسي–دستوري واحد.
كل ما سبق لا يهدف إلى جلد الذات، بل إلى تشخيص الداء قبل وصف الدواء. فإن كان الواقع السياسي والاجتماعي السوري اليوم مفعما بالتناقضات، فليس ذلك لأن السوريين شعبٌ عاجز عن الاتفاق، بل لأنهم حُرموا طوال عقود من آلية الحوار المؤسسي، ومن الأدوات التي تسمح بتحويل الخلاف إلى تعددية بنّاءة، لا إلى تنازع هدّام.
لقد جُرّبت في سوريا كل “الطرق المختصرة“:
- فُرضت الهويات الفئوية على أنها تمثّل “الأمة”، فزاد الشرخ.
- رُفعت شعارات التحرير والعدالة دون منظومات تنفيذية، فبقيت معلقة.
- تَسلّل الطموح الشخصي إلى العمل العام، فاستُبدلت السلطة بسلطات أخرى.
وفي ضوء كل هذا، يبرز سؤال جوهري لا بد أن نواجهه بصدق:
هل يمكن للسوريين، وسط هذا التذرر، أن يتفقوا على مشروع وطني واحد؟
ليس المقصود مشروعا أيديولوجيا جديدا، بل إطارا تأسيسيا جامعا، يضع القواعد المشتركة، ويعيد تعريف السياسة لا بوصفها صراع غلبة، بل فنّ تدبير الاختلاف.
وسط هذا الفراغ، وبدلا من انتظار مبادرة من الخارج، أو تسوية من فوق، وُلد “مشروع النهضة وبناء الدولة السورية ما بعد الاستبداد” كمحاولة داخلية جادّة لتجاوز هذه الحلقات المفرغة.
فالمشروع لا ينطلق من ادعاء تمثيل أحد، بل من إدراك عميق لطبيعة الانهيار السوري، وسعيٍ إلى بناء عقد وطني عقلاني وواقعي، يُقدّم حلولا للمأزق البنيوي في النظام والدولة والمجتمع.
ما الذي يميز هذا المشروع؟
أنه ليس برنامج حزب، ولا منصة إعلامية، ولا مبادرة ظرفية. بل هو خريطة طريق استراتيجية، تستند إلى:
- تحليل فلسفي وبنيوي لأسباب سقوط الدولة السورية.
- نقد جذري للبنية القانونية، والمؤسساتية، والدستورية السابقة.
- مقاربة تشاركية للهوية الوطنية، بعيدًا عن الشعارات الفارغة أو الإقصاء الممنهج.
- منظومة متكاملة لبناء دولة المواطنة، السيادة، والعدالة، عبر هندسة مؤسساتية قابلة للتطبيق.
- دمج بين التصورات النظرية والخطط التنفيذية، بما يربط الفكر بالممارسة.
مشروع النهضة لا يسعى لاستبدال سلطة بأخرى، ولا يقدّم نفسه كحكومة ظل، بل يدعو كل السوريين – من كل المكونات والتيارات والمناطق – إلى التفكير المشترك في مستقبل وطنهم، من خلال أدوات معرفية، ودستورية، ومجتمعية تؤسس لبناء جديد.
من شتات الصوت إلى وحدة الطريق
إنه دعوة مفتوحة لاكتشاف ذاتنا السياسية من جديد.
دعوة لكسر القوالب القديمة التي حجّمت الثورة، وشلّت إمكانيات العبور.
دعوة لأن نعيد كتابة الحكاية – لا عبر منابر الفصائل، بل عبر منصة الوطن.
ليست المعضلة في سوريا اليوم غياب البرامج أو الكفاءات، بل غياب الإطار الناظم الذي يوحّد المختلفين دون أن يبتلعهم، ويضبط الفوضى دون أن يخنق الحرية.
وفي غمرة الخراب، ما زال هناك من يؤمن أن هذا البلد، رغم كل الدم والخذلان، لم يُخلق ليتفتّت. بل ما زالت فيه بُنى حيّة من العقل، والكرامة، والإيمان بالمستقبل.
إن مشروع النهضة لا يعد السوريين بجنّة، ولا يزعم أنه الخلاص الوحيد، لكنه يُقدّم ما لم تجرؤ عليه معظم المبادرات:
أن يبدأ من التحليل العميق للكارثة، ليقترح بناءا تأسيسيا عقلانيا، لا ينتمي إلى فصيل، ولا يرضى بأن يكون واجهة لممول، ولا يتورّط في استبدال الاستبداد بمثله.
هو ببساطة: دعوة إلى التأسيس على أرض نظيفة من الأوهام.
إلى أن نعيد طرح الأسئلة الأولى:
من نحن؟ ماذا نريد؟ وكيف نضمن ألّا تُسرق بلادنا مرة أخرى… باسمنا؟
قد نختلف كثيرا، ولكننا نتفق على شيء واحد:
أن هذا الوطن، إن لم نبنه نحن، فلن يبنيه أحدٌ لنا.
وإن لم نملك الشجاعة لطرح مشروع جامع، فسنظل نعيش مشاريع غيرنا، فوق أرضنا، باسم قضايانا.
فلتكن سوريا مشروعا لنا… لا ساحةً لصراعات الآخرين.
من شتات الصوت إلى وحدة الطريق…